تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 43 من سورة الأنبياء
أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) { أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا } ، أي بل ألهم آلهة . والاستفهام إنكار وتقريع ، أي ما لهم آلهة مانعة لهم من دوننا . وهذا إبطال لمعتقدهم أنهم اتخذوا الأصنام شفعاء .
وجملة { لا يستطيعون نصر أنفسهم } مستأنفة معترضة . وضمير { يستطيعون } عائد إلى آلهة أجري عليهم ضمير العقلاء مجاراة لما يجريه العرب في كلامهم . والمعنى : كيف ينصرونهم وهم لا يستطيعون نصر أنفسهم ، ولا هم مؤيدون من الله بالقبول .
ثم أضرب إضراباً ثالثاً انتقل به إلى كشف سبب غرورهم الذي من جهلهم به حسبوا أنفسهم آمنين من أخَذ الله إياهم بالعذاب فجرّأهم ذلك على الاستهزاء بالوعيد ، وهو قوله تعالى : { بل متعنا هؤلاء وآباءهم } ، أي فما هم مستمرون فيه من النعمة إنما هو تمتيع وإمهال كما متعنا آباءهم من قبل ، وكما كان لآبائهم آجال انتهوا إليها كذلك يكون لهؤلاء ، ولكن الآجال تختلف بحسب ما علم الله من الحكمة في مَداها حتى طالت أعمار آبائهم . وهذا تعريض بأن أعمار هؤلاء لا تبلغ أعمار آبائهم ، وأن الله يحل بهم الهلاك لتكذيبهم إلى أمدٍ عَلِمَه .
وقد وُجه الخطاب إليهم ابتداء بقوله تعالى : { قل من يكلؤكم } ، ثم أُعرض عنهم من طريق الخطاب إلى طريق الغيبة لأن ما وجه إليهم من إنكار أن يكلأهم أحد من عذاب الله جعلهم أحرياء بالإعراض عنهم كما في قوله تعالى :
{ هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها } الآية في سورة [ يونس : 22 ].
و { يصحبون } إما مضارع صحبهُ إذا خالطه ولازمه ، والصحبة تقتضي النصر والتأييد ، فيجوز أن يكون الفاعل الذي ناب عنه من أسند إليه الفعلُ المبنيّ للنائب مراداً به الله تعالى ، أي لا يصحبهم الله ، أي لا يؤيدهم؛ فيكون قوله تعالى : { منا } متعلقاً ب { يصحبون } على معنى ( مِن ) الاتصالية ، أي صحبة متصلةً بنا بمعنى صحبة متينة . وهذا نفي لما اعتقده المشركون بقولهم { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } [ الزمر : 3 ].
ويجوز أن يكون الفاعل المحذوف محذوفاً لقصد العموم ، أي لا يصحبهم صاحب ، أي لا يجيرهم جار فإن الجوار يقتضي حِماية الجار فيكون قوله تعالى : { منا } متعلقاً ب { يصحبون } على معنى ( مِن ) التي بمعنى ( على ) كقوله تعالى : { فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا } [ غافر : 29 ].
وإما مضارع أصحبه المهموز بمعنى حفظه ومنعه ، أي من السوء .
والإشارة ب { هؤلاء } لحَاضرين في الأذهان وهم كفار قريش .
وقد استقريْت أن القرآن إذا ذكرت فيه هذه الإشارة دون وجود مشار إليه في الكلام فهو يعني بها كفارَ قريش .