تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 37 من سورة الأنبياء
خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)
جملة { خُلِق الإنسان من عَجَل } معترضة بين جملة { وإذا رآك الذين كفروا } [ الأنبياء : 36 ] وبين جملة { سأُريكم آياتي } ، جعلت مقدمة لجملة { سَأُريكم آياتي }. أمّا جملة { سَأُريكم آياتي } فهي معترضة بين جملة { وإذا رآك الذين كفروا إن يتخِذونك إلاّ هزُؤاً } [ الأنبياء : 36 ] وبين جملة { ويقولون متى هذا الوعد } [ الأنبياء : 38 ] ، لأن قوله تعالى : { وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزؤاً } [ الأنبياء : 36 ] يثير في نفوس المسلمين تساؤلاً عن مدى إمهال المشركين ، فكان قوله تعالى : { سأريكم آياتي فلا تستعجلون } استئنافاً بيانياً جاء معترضاً بين الجُمل التي تحكي أقوال المشركين وما تفرع عليها . فالخطاب إلى المسلمين الذين كانوا يستبطئون حلول الوعيد الذي توعد الله تعالى به المكذبين .
ومناسبة موقع الجملتين أن ذكر استهزاء المشركين بالنبي صلى الله عليه وسلم يُهيج حنق المسلمين عليهم فيوَدُّوا أن ينزِل بالمكذبين الوعيد عاجلاً فخوطبوا بالتريث وأن لا يستعجلوا ربهم لأنه أعلم بمقتضى الحكمة في توقيت حلول الوعيد وما في تأخير نزوله من المصالح للدين . وأهمها مصلحة إمهال القوم حتى يدخل منهم كثير في الإسلام . والوجه أن تكون الجملة الأولى تمهيداً للثانية .
والعَجَل : السرعة . وخَلْق الإنسان منه استعارة لتمكن هذا الوصف من جِبلّة الإنسانية . شبهت شدة ملازمة الوصف بكونه مادة لتكوين موصوفه ، لأن ضعف صفة الصبر في الإنسان من مقتضى التفكير في المحبة والكراهية . فإذا فَكر العقل في شيء محبوب استعجل حصوله بداعي المحبة ، وإذا فكر في شيء مكروه استعجل إزالته بداعي الكراهية ، ولا تخلو أحوال الإنسان عن هذين ، فلا جرَم كان الإنسان عَجولاً بالطبع فكأنه مخلوق من العَجْلة . ونحوه قوله تعالى : { وكان الإنسان عَجولاً } [ الإسراء : 11 ] وقوله تعالى : { إن الإنسان خلق هلوعاً } [ المعارج : 19 ]. ثم إن أفراد الناس متفاوتون في هذا الاستعجال على حسب تفاوتهم في غور النظر والفكر ولكنهم مع ذلك لا يخلون عنه . وأما من فسر العَجل بالطين وزعم أنها كلمة حميرية فقد أبعد وما أسعد .
وجملة { سأُريكم آياتي } هي المقصود من الاعتراض . وهي مستأنفة .
والمعنى : وعد بأنهم سيرون آيات الله في نصر الدين ، وذلك بما حصل يوم بدر من النصر وهلك أيمة الشرك وما حصل بعده من أيام الإسلام التي كان النصر فيها عاقبة المسلمين .
وتفرع على هذا الوعد نهي عن طلب التعجيل ، أي عليكم أن تكلوا ذلك إلى ما يوقته الله ويؤجله ، ولكل أجل كتاب . فهو نهي عن التوغل في هذه الصفة وعن لوازم ذلك التي تفضي إلى الشك في الوعيد .
وحذفت ياء المتكلم من كلمة { تستعجلونِ } تخفيفاً مع بقاء حركتها فإذا وُقف عليه حذفت الحركة من النوننِ .