تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 94 من سورة البقرة
إبطال لدعوى قارة في نفوسهم اقتضاها قولهم : { نؤمن بما أنزل علينا } [ البقرة : 91 ] الذي أرادوا به الاعتذار عن إعراضهم عن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم بعذر أنهم متصلبون في التمسك بالتوراة لا يعدونها وأنهم بذلك استحقوا محبة الله إياهم وتكون الآخرة لهم فلما أبطلت دعوى إيمانهم بما أنزل عليهم بإلزامهم الكذب في دعواهم بسند ما أتاه سلفهم وهم جدودهم من الفظائع مع أنبيائهم والخروج عن أوامر التوراة بالإشراك بالله تعالى بعبادة العجل ، عقب ذلك بإبطال ما في عقائدهم من أنهم أهل الانفراد برحمة الله ما داموا متمسكين بالتوراة وأن من خالفها لا يكون له حظ في الآخرة ، وارتكب في إبطال اعتقادهم هذا طريقة الإحالة على ما عقدوا عليه اعتقادهم من الثقة بحسن المصير أو على شكهم في ذلك فإذا ثبت لديهم شكهم في ذلك علموا أن إيمانهم بالتوراة غير ثابت على حقه وذلك أشد ما يفت في أعضادهم ويسقط في أيديهم لأن ترقب الحظ الأخروي أهم ما يتعلق به المعتقد المتدين فإن تلك هي الحياة الدائمة والنعيم المقيم .
وقد قيل : إن هذه الآية رد لدعوى أخرى صدرت من اليهود تدل على أنهم يجعلون الجنة خاصة بهم مثل قولهم نحن { أبناء الله وأحباؤه } [ المائدة : 18 ] وقولهم { لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً } [ البقرة : 111 ] ، وإلى هذا مال القرطبي والبيضاوي ، وعليه فيكون ذكر الرد عليهم بينا لمجرد المناسبة في رد معتقد لهم باطل أيضاً لا في خصوص الغرض المسوق فيه الآيات المتقدمة بناءً على أن الآيات لا يلزم أن تكون متناسبة تمام المناسبة ، ونحن لا نساعد على ذلك فعلى هذا الوجه تكون هاته الآية هنا نزلت مع سوابقها للرد على أقوالهم المتفرقة المحكية في آيات أخرى وإنما اتصلت مع الآيات الراجعة إلى رد دعواهم الإيمان بما أنزل عليهم للمناسبة بجمع رد جميع دعاويهم ولكن فيما ذكرناه غنية . وأيّاً ما كان فهذه الآية تحدت اليهود كما تحدى القرآن مشركي العرب بقوله : { فأتوا بسورة من مثله } [ البقرة : 23 ] . وإنما فصلت هاته الجملة عما قبلها لاختلاف السياق لأن هذه الآية إلقاء حجة عليهم والآيات السابقة تفظيع لأحوالهم وإن كان في كل من ذلك احتجاج لكن الانتقال من أسلوب إلى أسلوب كان محسناً للفصل دون العطف لا سيما مع افتتاح الاحتجاج بقل .
والكلام في { لكم } مشعر بأن المراد من الدار الآخرة نعيمها و { لكم } خبر { كانت } قدم للحصر بناء على اعتقادهم كتقديمه في قول الكميت يمدح هشاماً بن عبد الملك حين عفا عنه من قصيدة :
لكم مسجداً الله المزوران والحصى ... لكم قبضة من بين أثري وأقترا
و { عند الله } ظرف متعلق بكانت والعندية عندية تشريف وادخار أي مدخرة لكم عند الله وفي ذلك إيذان بأن الدار الآخرة مراد بها الجنة .
وانتصب { خالصة } على الحال من اسم ( كان ) ولا وجه لتوقف بعض النحاة في مجيء الحال من اسم ( كان ) . ومعنى الخالصة السالمة من مشاركة غيركم لكم فيها فهو يؤول إلى معنى خاصة بكم .
وقوله : { من دون الناس } دون في الأصل ظرف للمكان الأقرب من مكان آخر غير متصرف وهو مجاز في المفارقة فلذلك تدل على تخالف الأوصاف أو الأحوال ، تقول هذا لك دون زيد أي لاحق لزيد فيه فقوله : { من دون الناس } توكيد لمعنى الاختصاص المستفاد من تقديم الخبر ومن قوله : { خالصة } لدفع احتمال أن يكون المراد من الخلوص الصفاء من المشارك في درجاتهم مع كونه له حظ من النعيم . والمراد من الناس جميع الناس فاللام فيه للاستغراق لأنهم قالوا : { لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً } [ البقرة : 111 ] .
وقوله : { فتمنوا الموت } جواب الشرط ووجه الملازمة بين الشرط وهو أن الدار الآخرة لهم وجزائه وهو تمني الموت أن الدار الآخرة لا يخلص أحد إليها إلا بالروح حين تفارق جسده ومفارقة الروح الجسد هو الموت فإذا كان الموت هو سبب مصيرهم إلى الخيرات كان الشأن أن يتمنوا حلوله كما كان شأن أصحاب النبيء صلى الله عليه وسلم كما قال عمير بن الحمام رضي الله عنه :
جرياً إلى الله بغير زاد ... إلا التقى وعملَ المعاد
وارتجز جعفر بن أبي طالب يوم غزوة مؤتة حين اقتحم على المشركين بقوله :
يا حبذا الجنةُ واقترابُها ... طيبة وبارد شرابها
وقال عبد الله بن رواحة عند خروجه إلى غزوة مؤتة ودعا المسلمون له ولمن معه أن يردهم الله سالمين :
لكني أسأل الرحمان مغفرةً ... وضربةً ذات فرغ تقذف الزبدا
أو طعنةً من يدي حران مُجهِزة ... بحربة تُنفِذُ الأحشاءَ والكبدا
حتى يقولوا إذا مروا على جدثي ... أرشدك الله من غاز وقد رشدا