تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 247 من سورة البقرة
أعاد الفعل في قوله : { وقال لهم نبيهم } للدلالة على أن كلامه هذا ليس من بقية كلامه الأول ، بل هو حديث آخر متأخر عنه وذلك أنه بعد أن حذرهم عواقب الحكومة الملكية وحذرهم التولي عن القتال ، تكلم معهم كلاماً آخَرَ في وقت آخر .
وتأكيدُ الخبر بإنَّ إيذان بأن من شأن هذا الخبر أن يُتلقى بالاستغراب والشك ، كما أنبأ عنه قولهم : { أنى يكون له الملك علينا } .
ووقع في سفر صمويل في الإصحاح التاسع أنه لما صمم بنو إسرائيل في سؤالهم أن يعين لهم مِلكاً ، صلى لله تعالى فأوحى الله إليه أنْ أجبْهم إلى كل ما طلبوه ، فأجابهم وقال لهم : اذهبوا إلى مدنكم ، ثم أوحى الله إليه صفة الملك الذي سيعينه لهم ، وأَنه لقيه رجل من بنيامين اسمه شَاول بن قيس ، فوجد فيه الصفة وهي أنه أطول القوم ، ومسَحَهُ صمويلُ ملكاً على إسرائيل ، إذْ صب على رأسه زيتاً ، وقبَّله وجمع بني إسرائيل بعد أيام في بلد المصفاة وأحضره وعينه لهم ملكاً ، وذلك سنة 1095 قبل المسيح .
وهذا الملك هو الذي سمي في الآية طالوت وهو شاول وطالوت لقبهُ ، وهو وزن اسم مصدر من الطول ، على وزن فعَلُوت مثل جَبَروت ومَلكوت ورَهَبوت ورغَبوت ورحموت ، ومنه طاغوت أصله طَغَيُوت فوقع فيه قلب مكاني ، وطالوت وصف به للمبالغة في طول قامته ، ولعله جعل لقباً له في القرآن للإِشارة إلى الصفة التي عرف بها لصمويل في الوحي الذي أوحى الله إليه كما تقدم ، ولمراعاة التنظير بينه وبين جالوت غريمه في الحرب ، أو كان ذلك لقباً له في قومه قبلَ أن يؤتى الملك ، وإنما يلقب بأمثال هذا اللقب من كان من العموم . ووزن فَعَلوت وزن نادر في العربية ولعله من بقايا العربية القديمة السامية ، وهذا هو الذي يؤذن به منعه من الصرف ، فإن منعه من الصرف لا علة له إلاّ العلمية والعجمة ، وجزم الراغب بأنه اسم عجمي ولم يُذكر في كتب اللغة لذلك ولعله عومل معاملة الاسم العجمي لمَّا جُعل علماً على هذا العَجمي في العربية ، فعُجمته عارضة وليس هو عجمياً بالأصالة ، لأنه لم يعرف هذا الاسم في لغة العبرانيين كداوود وشاوول ، ويجوز أن يكون منعه من الصرف لمصيره بالإبدال إلى شبه وزن فاعُول ، ووزنُ فاعول في الأعلام عجمي ، مثل هاروت وماروت وشاوول وداوود ، ولذلك منعوا قابوس من الصرف ، ولم يعتدوا باشتقاقه من القبس ، وكأنَّ عدول القرآن عن ذكره باسمه شاول لثقل هذا اللفظ وخفة طالوت .
وأَنَّى في قوله : { أنى يكون له الملك علينا } بمعنى كيف ، وهو استفهام مستعمل في التعجب ، تعجبوا من جعل مِثله ملكاً ، وكان رجلاً فلاحاً من بيت حقير ، إلاّ أنه كان شجاعاً ، وكان أطول القوم ، ولما اختاره صمويل لذلك ، فتح الله عليه بالحكمة ، وتنبأ نبوءات كثيرة ، ورضيت به بعض إسرائيل ، وأباه بعضهم ، ففي سفر صمويل أن الذين لم يرضَوا به هم بنو بليعال والقرآن ذكر أن بني إسرائيل قالوا : أنى يكون له الملك علينا وهو الحق؛ لأنهم لا بد أن يكونوا قد ظنوا أن مَلكهم سيكون من كبرائهم وقوادهم .
والسر في اختيار نبيئهم لهم هذا الملك أنه أراد أن تبقى لهم حالتهم الشورية بقدر الإمكان ، فجعل مَلِكهم من عامتهم لا من سادتهم ، لتكون قدمه في الملك غير راسخة ، فلا يخشى منه أن يشتد في استعباد أمته ، لأن الملوك في ابتداء تأسيس الدول يكونون أقرب إلى الخير لأنهم لم يعتادوا عظمة الملك ولم ينسوا مساواتَهم لأمثالهم ، وما يزالون يتوقعون الخلع ، ولهذا كانت الخلافة سُنَّةَ الإسلام ، وكانت الوراثة مبدأ الملك في الإسلام ، إذ عهد معاوية ابن أبي سفيان لابنه يزيد بالخلافة بعده ، والظن به أنه لم يكن يسعه يومئذٍ إلاّ ذلك؛ لأن شيعة بني أمية راغبون فيه ، ثم كانت قاعدة الوراثة للملك في دول الإسلام وهي من تقاليد الدول من أقدم عصور التاريخ ، وهي سنة سيئة ولهذا تجد مؤسسي الدول أفضل ملوك عائلاتهم ، وقواد بني إسرائيل لم يتفطنوا لهذه الحكمة لقصر أنظارهم ، وإنما نظروا إلى قلة جدته ، فتوهموا ذلك مانعاً من تمليكه عليهم ، ولم يعلموا أن الاعتبار بالخلال النفسانية ، وأن الغنى غنى النفس لا وفرة المال وماذا تجدي وفرته إذا لم يكن ينفقه في المصالح ، وقد قال الراجز
: ... قدني من نصر الخُبَيْبين قَدِي
ليسَ الإمامُ بالشحيح المُلحد ... فقولهم : { ونحن أحق بالملك } جملة حالية ، والضمير من المتكلمين ، وهم قادة بني إسرائيل وجعلوا الجملة حالاً للدلالة على أنهم لما ذكروا أحقيتهم بالملك لم يحتاجوا إلى الاستدلال على ذلك؛ لأن هذا الأمر عندهم مسلم معروف ، إذ هم قادة وعرفاء ، وشاوول رجل من السوقة ، فهذا تسجيل منهم بأرجحيتهم عليه ، وقوله : { ولم يؤت سعة من المال } معطوفة على جملة الحال فهي حال ثانية . وهذا إبداء مانع فيه من ولايته الملك في نظرهم ، وهو أنه فقير ، وشأن الملك أن يكون ذا مال ليكفي نوائب الأمة فينفق المال في العدد والعطاء وإغاثة الملهوف ، فكيف يستطيع من ليس بذي مال أن يكون ملكاً ، وإنما قالوا هذا لقصورهم في معرفة سياسة الأمم ونظام الملك؛ فإنهم رأوا الملوك المجاورين لهم في بذخة وسعة ، فظنوا ذلك من شروط الملك . ولذا أجابهم نبيئهم بقوله : { إن الله اصطفاه عليكم } رادّاً على قولهم : { ونحن أحق بالملك منه } فإنهم استندوا إلى اصطفاء الجمهور إياهم فأجابهم بأنه أرجح منهم لأن الله اصطفاه ، وبقوله : { وزاده بسطة في العلم والجسم } راداً عليهم قولهم : { ولم يؤت سعة من المال } أي زاده عليكم بسطة في العلم والجسم ، فأعلمهم نبيئهم أن الصفات المحتاج إليها في سياسة أمر الأمة ترجع إلى أصالة الرأي وقوة البدن؛ لأنه بالرأي يهتدي لمصالح الأمة ، لا سيما في وقت المضائق ، وعند تعذر الاستشارة أو عند خلاف أهل الشورى وبالقوة يستطيع الثبات في مواقع القتال فيكون بثباته ثبات نفوس الجيش .
وقدم النبي في كلامه العلم على القوة لأن وقعه أعظم ، قال أبو الطيب
: ... الرأي قبلَ شجاعةِ الشجعان
هو أَوَّلٌ وهي المحل الثاني ... فالعلم المراد هنا ، هو علم تدبير الحرب وسياسة الأمة ، وقيل : هو علم النبوءة ، ولا يصح ذلك لأن طالوت لم يكن معدوداً من أنبيائهم .
ولم يجبهم نبيئهم عن قوله : { ولم يؤت سعة من المال } اكتفاء بدلالة اقتصاره على قوله : { وزاده بسطة في العلم والجسم } فإنه ببسطة العلم وبالنصر يتوافر له المال؛ لأن «المال تجلبه الرعية» كما قال أرسططاليس ، ولأن الملك ولو كان ذا ثروة ، فثروته لا تكفي لإقامة أمور المملكة ولهذا لم يكن من شرط ولاة الأمور من الخليفة فما دونه أن يكون ذا سعة ، وقد ولي على الأمة أبو بكر وعمر وعلي ولم يكونوا ذوي يسار ، وغنى الأمة في بيت مالها ومنه تقوم مصالحها ، وأرزاق ولاة أمورها .
والبسطة اسم من البسط وهو السعة والانتشار ، فالبسطة الوفرة والقوة من الشيء ، وسيجيء كلام عليها عند قوله تعالى : { وزادكم في الخلق } في الأعراف ( 69 ) .
وقوله : والله يؤتي ملكه من يشاء } يحتمل أن يكون من كلام النبي ، فيكون قد رجع بهم إلى التسليم إلى أمر الله ، بعد أن بين لهم شيئاً من حكمة الله في ذلك . ويحتمل أن يكون تذييلاً للقصة من كلام الله تعالى ، وكذلك قوله : { والله واسع عليم } .