تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 42 من سورة الإسراء
عود إلى إبطال تعدد الآلهة زيادة في استئصال عقائد المشركين من عروقها ، فالجملة استئناف ابتدائي بعد جملة { ولا تجعل مع اللَّه إلها آخر فتلقى في جهنم ملوماً مدحوراً } [ الإسراء : 39 ]. والمخاطب بالأمر بالقول هو النبي لدمغهم بالحجة المقنعة بفساد قولهم . وللاهتمام بها افتتحت ب قل } تخصيصاً لهذا بالتبليغ وإن كان جميع القرآن مأموراً بتبليغه .
وجملة { كما تقولون } معترضة للتنبيه على أن تعدد الآلهة لا تحقق له وإنما هو مجرد قول عار عن المطابقة لما في نفس الأمر .
وابتغاء السبيل : طلب طريق الوصول إلى الشيء ، أي توخيه والاجتهاد لإصابته ، وهو هنا مجاز في توخي وسيلة الشيء . وقد جاء في حديث موسى والخضر عليهما السلام أن موسى سأل السبيل إلى لُقيا الخضر .
و ( إذن ) دالة على الجواب والجزاء فهي مؤكدة لمعنى الجواب الذي تدل عليه اللام المقترنة بجواب ( لو ) الامتناعية الدالة على امتناع حصول جوابها لأجل امتناع وقوع شرطها ، وزائدة بأنها تفيد أن الجواب جزاء عن الكلام المجاب . فالمقصود الاستدلال على انتفاء إلهية الأصنام والملائكة الذين جعلوهم آلهة .
وهذا الاستدلال يحتمل معنيين مآلهما واحد :
والمعنى الأول : أن يكون المراد بالسبيل سبيل السعي إلى الغلبة والقهر ، أي لطلبوا مغالبة ذي العرش وهو الله تعالى . وهذا كقوله تعالى : { وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض } [ المؤمنون : 91 ]. ووجه الملازمة التي بني عليها الدليل أن من شأن أهل السلطان في العرف والعادة أن يتطلبوا توسعة سلطانهم ويسعى بعضهم إلى بعض بالغزو ويتألّبُوا على السلطان الأعظم ليسلبوه ملكه أو بَعضه ، وقديماً ما ثارت الأمراء والسلاطين على ملك الملوك وسلبوه ملكه فلو كان مع الله آلهة لسلكوا عادة أمثالهم .
وتمام الدليل محذوف للإيجاز يدل عليه ما يستلزمه ابتغاءُ السبيل على هذا المعنى من التدافع والتغالب اللازمين عرفاً لحالة طلب سبيل النزول بالقرية أو الحَي لقصد الغزو . وذلك المفضي إلى اختلال العالم لاشتغال مدبريه بالمقاتلة والمدافعة على نحو ما يوجد في ميثلوجيا اليونان من تغالب الأرباب وكَيد بعضهم لبعض ، فيكون هذا في معنى قوله تعالى : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [ الأنبياء : 22 ]. وهو الدليل المسمى ببرهان التمانع في علم أصول الدين ، فالسبيل على هذا المعنى مجاز عن التمكن والظفر بالمطلوب . والابتغاء على هذا ابتغاء عن عداوة وكراهة .
وقوله : { كما تقولون } على هذا الوجه تنبيه على خطئهم ، وهو من استعمال الموصول في التنبيه على الخطأ .
والمعنى الثاني : أن يكون المراد بالسبيل سبيل الوصول إلى ذي العرش ، وهو الله تعالى ، وصول الخضوع والاستعطاف والتقرب ، أي لطلبوا ما يوصلهم إلى مرضاته كقوله : { يبتغون إلى ربهم الوسيلة } [ الإسراء : 57 ].
ووجه الاستدلال أنكم جعلتموهم آلهة وقلتم ما نعبدهم إلا ليكونوا شفعاءنا عند الله ، فلو كانوا آلهة كما وصفتم إلهيتهم لكانوا لا غنى لهم عن الخضوع إلى الله ، وذلك كاف لكم بفساد قولكم ، إذ الإلهية تقتضي عدم الاحتياج فكان مآل قولكم إنهم عباد لله مكرمون عنده ، وهذا كاف في تفطنكم لفساد القول بإلهيتهم .
والابتغاء على هذا ابتغاء محبة ورغبة ، كقوله : { فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا } [ المزمّل : 19 ]. وقريب من معناه قوله تعالى : { وقالوا اتخذ الرحمان ولداً سبحانه بل عباد مكرمون } [ الأنبياء : 26 ] ، فالسبيل على هذا المعنى مجاز عن التوسل إليه والسعي إلى مرضاته .
وقوله : { كما تقولون } على هذا المعنى تقييد للكون في قوله : { لو كان معه آلهة أي لو كان معه آلهة حال كونهم كما تقولون ، أي كما تصفون إلهيتهم من قولكم : { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [ يونس : 18 ].
واستحضار الذات العلية بوصف { ذي العرش } دون اسمه العَلم لما تتضمنه الإضافة إلى العرش من الشأن الجليل الذي هو مثار حسد الآلهة إياه وطمعهم في انتزاع ملكه على المعنى الأول ، أو الذي هو مطمع الآلهة الابتغاء من سعة ما عنده على المعنى الثاني .
وقرأ الجمهور { كما تقولون } بتاء الخطاب على الغالب في حكاية القول المأمور بتبليغه أن يحكى كما يقول المبلغ حين إبلاغه . وقرأه ابن كثير وحفص بياء الغيبة على الوجه الآخر في حكاية القول المأمور بإبلاغه للغير أن يحكى بالمعنى . لأن في حال خطاب الآمر المأمور بالتبليغ يكون المبلغ له غائباً وإنما يصير مخاطباً عند التبليغ فإذا لوحظ حاله هذا عبر عنه بطريق الغيبة كما قرىء قوله تعالى : { قل للذين كفروا ستغلبون } [ آل عمران : 12 ] بالتاء وبالياء أو على أن قوله : { كما يقولون } اعتراض بين شرط ( لو ) وجوابه .