تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 101 من سورة الإسراء
بَقي قولهم : { أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً } [ الإسراء : 92 ] غيرَ مردود عليهم ، لأن له مخالفة لبقية ما اقترحوه بأنه اقتراح آية عِذاب ورعب ، فهو من قبيل آيات موسى عليه السلام التسع . فكان ذكر ما آتاه الله موسى من الآيات وعدم إجداء ذلك في فرعون وقومه تنظيراً لما سأله المشركون .
والمقصود : أننا آتينا موسى عليه السلام تسع آيات بيّناتتِ الدلالة على صدقه فلم يهتد فرعون وقومه وزعموا ذلك سحراً ، ففي ذلك مَثلٌ للمكابرين كلهم وما قريش إلا منهم . ففي هذا مثَل للمعاندين وتسلية للرسول . والآيات التسع هي : بياض يده كلما أدخلها في جيبه وأخرجَها ، وانقلاب العصا حية ، والطوفان ، والجراد ، والقُمّل ، والضفادع ، والدم ، والرجز وهو الدمل ، والقحط وهو السنون ونقص الثمرات ، وهي مذكورة في سورة الأعراف . وجمعها الفيروزآبادي في قوله :
عَصًا ، سَنَةٌ ، بَحْر ، جراد ، وقُمّل
يَدٌ ، ودَمٌ ، بعد الضفادع طُوفَانُ
فقد حصلت بقوله : { ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات } الحجة على المشركين الذين يقترحون الآيات .
ثم لم يزل الاعتناء في هذه السورة بالمقارنة بين رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالة موسى عليه السلام إقامةً للحجة على المشركين الذين كذبوا بالرسالة بعلة أن الذي جاءهم بشر ، وللحجة على أهل الكتاب الذين ظاهروا المشركين ولقنوهم شُبه الإلحاد في الرسالة المحمدية ليصفو لهم جَوّ العلم في بلاد العرب وهم ما كانوا يحسبون لما وراء ذلك حساباً .
فالمعنى : ولقد آتينا موسى تسع آيات على رسالته .
وهذا مثل التنظير بين إيتاء موسى الكتاب وإيتاء القرآن في قوله في أول السورة { وآتينا موسى الكتاب } [ الإسراء : 2 ] الآيات ، ثم قوله : { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } [ الإسراء : 9 ].
فتكون هذه الجملة عطفاً على جملة { قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً } [ الإسراء : 93 ] أو على جملة { قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي } الآية [ الإسراء : 100 ].
ثم انتقل من ذلك بطريقة التفريع إلى التسجيل ببني إسرائيل استشهاداً بهم على المشركين ، وإدماجاً للتعريض بهم بأنهم سَاووا المشركين في إنكار نبوءة محمد ومظاهرتهم المشركين بالدس وتلقين الشبه ، تذكيراً لهم بحال فرعون وقومه إذ قال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحوراً }.
والخطاب في قوله : { فسئل } للنبيء صلى الله عليه وسلم والمراد : سؤال الاحتجاج بهم على المشركين لا سؤال الاسترشاد كما هو بين .
وقوله : { مسحوراً } ظاهره أن معناه متأثراً بالسحر ، أي سحَركَ السحرة وأفسدوا عقلك فصُرت تهرف بالكلام الباطل الدال على خلل العقل ( مثل المَيْمون والمشؤوم ). وهذا قول قاله فرعون في مقام غير الذي قال له فيه { يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره } [ الشعراء : 35 ] ، والذي قال فيه { إن هذا لساحر عليم } ، [ الشعراء : 34 ] فيكون إعراضاً عن الاشتغال بالآيات وإقبالاً على تطلع حال موسى فيما يقوله من غرائب الأقوال عندهم . ألا ترى إلى قوله تعالى حكاية عنه قال { لمن حوله ألا تستمعون } [ الشعراء : 25 ]. وكل تلك أقوال صدرت من فرعون في مقامات محاوراته مع موسى عليه السلام فحكي في كل آية شيء منها .
و ( إذا ) ظرف متعلق ب { آتينا }. والضمير المنصوب في { جاءهم } عائد إلى بني إسرئيل . وأصل الكلام : ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات إذ جاء بني إسرائيل ، فاسألْهم .
وكان فرعون تعلق ظنه بحقيقة ما أظهر من الآيات فرجح عنده أنها سحر ، أوْ تعلق ظنه بحقيقة حال موسى فرجح عنده أنه أصابه سحر ، لأن الظن دون اليقين ، قال تعالى : { إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين } [ الجاثية : 32 ]. وقد يستعمل الظن بمعنى العلم اليقين .