تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 44 من سورة النحل
وقوله { بالبينات } متعلّق بمستقر صفةً أو حالاً من { رجالاً }. وفي تعلّقه وجوه أخر ذكرها في «الكشاف» ، والباء للمصاحبة ، أي مصحوبين بالبينات والزبر ، فالبينات دلائل الصّدق من معجزات أو أدلّة عقلية . وقد اجتمع ذلك في القرآن وافترق بين الرسل الأوّلين كما تفرّق منه كثير لرسولنا صلى الله عليه وسلم
و { الزُّبُر } : جمع زبور وهو مشتقّ من الزبرْ أي الكتابة ، ففعول بمعنى مفعول . { والزبر } الكتب التي كتب فيها ما أوحي إلى الرسل مثل صحف إبراهيم والتوراة وما كتبه الحواريون من الوحي إلى عيسى عليه السلام وإن لم يكتبه عيسى .
ولعل عطف { الزبر } على { بالبينات } عطف تقسيم بقصد التوزيع ، أي بعضهم مصحوب بالبينات وبعضهم بالأمرين لأنه قد تجيء رسل بدون كتب ، مثل حنظلة بن صفوان رسول أهل الرّسّ وخالد بن سنان رسول عبس . ولم يذكر الله لنوح عليه السلام كتاباً .
وقد تجعل { الزّبر } خاصة بالكتب الوجيزة التي ليست فيها شريعة واسعة مثل صحف إبراهيم وزبور داود عليهما السلام والإنجيل كما فسّروها به في سورة فاطر .
لما اتّضحت الحجّة بشواهد التاريخ الذي لا ينكر ذُكرت النتيجة المقصودة ، وهو أن ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم إنما هو ذكر وليس أساطير الأوّلين .
والذكر الكلام الذي شأنه أن يُذكر ، أي يُتلى ويكرّر . وقد تقدّم عند قوله تعالى : { وقالوا يأيها الذي نزل عليه الذكر } في سورة الحِجر ( 6 ). أي ما كنتَ بدعاً من الرّسل فقد أوحينا إليك الذكر . والذكر : ما أنزل ليقرأه الناس ويتلونه تكراراً ليتذكروا ما اشتمل عليه . وتقديم المتعلّق المجرور على المفعول للاهتمام بضمير المخاطب .
وفي الاقتصار على إنزال الذكر عقب قوله : { بالبينات والزبر } إيماء إلى أن الكتاب المنزّل على محمد صلى الله عليه وسلم هو بيّنةٌ وزبور معاً ، أي هو معجزة وكتاب شرع . وذلك من مزايا القرآن التي لم يشاركه فيها كتاب آخر ، ولا معجزةٌ أخرى ، وقد قال الله تعالى : { وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربّه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مُبين أو لم يكفهم أنّا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمةً وذكرى لقوم يؤمنون } سورة العنكبوت ( 50 ، 51 ). وفي الحديث : أن النبي قال : " ما من الأنبياء نبيء إلا أوتي من الآيات ما مِثْلُه آمَنَ عليه البشر وإنما كان الذي أوتيتُ وحياً أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة " .
والتبيين : إيضاح المعنى .
والتعريف في الناس للعموم .
والإظهار في قوله تعالى : { ما نزل إليهم } يقتضي أن ما صدق الموصول غير الذكر المتقدم ، إذ لو كان إيّاه لكان مقتضى الظاهر أن يقال لتبيّنه : للناس . ولذا فالأحسن أن يكون المراد بما نزل إليهم الشرائع التي أرسل الله بها محمداً صلى الله عليه وسلم فجعل القرآن جامعاً لها ومبيناً لها ببليغ نظمه ووفرة معانيه ، فيكون في معنى قوله تعالى :
{ ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء } [ سورة النحل : 89 ].
وإسناد التبيين إلى النبي عليه الصلاة والسلام باعتبار أنه المبلّغ للناس هذا البيانَ . واللّام على هذا الوجه لذكر العِلّة الأصلية في إنزال القرآن .
وفسر { ما نزل إليهم } بأنه عين الذكر المنزّل ، أي أنزلنا إليك الذكر لتبينّه للناس ، فيكون إظهاراً في مقام الإضمار لإفادة أن إنزال الذكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو إنزاله إلى الناس كقوله تعالى : { لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم } [ سورة الأنبياء : 10 ].
وإنّما أتي بلفظه مرتين للإيماء إلى التّفاوت بين الإنزالين : فإنزاله إلى النبي مباشرةً ، وإنزاله إلى إبلاغه إليهم .
فالمراد بالتبيين على هذا تبيين ما في القرآن من المعاني ، وتكون اللّام لتعليل بعض الحِكم الحافّة بإنزال القرآن فإنها كثيرة ، فمنها أن يبيّنه النبي فتحصل فوائد العلم والبيان ، كقوله تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيّننّه للناس } [ سورة آل عمران : 187 ].
وليس في هذه الآية دليل لمسائل تخصيص القرآن بالسنّة ، وبيان مجمل القرآن بالسنّة ، وترجيح دليل السنّة المتواترة على دليل الكتاب عند التعارض المفروضات في أصول الفقه إذ كل من الكتاب والسنّة هو من تبيين النبي إذ هو واسطته .
عطف { لعلهم يتفكرون } حكمة أخرى من حِكَم إنزال القرآن ، وهي تهيئة تفكّر الناس فيه وتأمّلهم فيما يقرّبهم إلى رضى الله تعالى . فعلى الوجه الأول في تفسير { لتبين للناس } يكون المراد أن يتفكّروا بأنفسهم في معاني القرآن وفهم فوائده ، وعلى الوجه الثاني أن يتفكّروا في بيانك ويعوه بأفهامهم .