تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 40 من سورة هود
{ حتى } غاية ل { يصنع الفلك } [ هود : 38 ] أي يصنعه إلى زمن مجيء أمرنا ، ف { إذا } ظرف مضمن معنى الشرط ولذلك جيء له بجواب . وهو جملة { قلنا احمل }. وجعل الشرط وجوابه غاية باعتبار ما في حرف الشرط من معنى الزمان وإضافته إلى جملة الشرط ، فحصل معنى الغاية عند حصول مضمون جملة الجزاء ، وهو نظم بديع بإيجازه .
و { حتى } ابتدائية .
والأمر هنا يحتمل أمْر التكوين بالطوفان ، ويحتمل الشّأن وهو حادث الغرق ، وإضافته إلى اسم الجلالة لتهويله بأنّه فوق ما يعرفون .
ومَجيء الأمر : حصوله .
والفوران : غليان القدر ، ويطلق على نبع الماء بشدة ، تشبيهاً بفوران ماء في القدر إذا غلي ، وحملوه على ما جاء في آيات أخرى من قصة نوح عليه السّلام مثل قوله : { وفجّرنا الأرض عيوناً } [ القمر : 12 ]. ولذلك لم يتضح لهم إسناده إلى التنور ، فإن التنور هو الموقد الذي ينضج فيه الخبز ، فكثرت الأقوال في تفسير التنور ، بلغت نسبة أقوال منها ما لا ينبغي قبوله . ومنها ما له وجه وهو متفاوت .
فمن المفسرين من أبقى التنور على حقيقته ، فجعل الغوران خروج الماء من أحد التنانير وأنه علامة جعلها الله لنوح عليه السّلام إذ أفار الماء من تنوره علم أن ذلك مبدأ الطوفان فركِب الفلكَ وأركبَ من معه .
ومنهم من حمل التنور على المَجاز المفرد ففسره بسطح الأرض ، أي فار الماء من جميع الأرض حتى صار بسطح الأرض كفوهة التنور .
ومنهم من فسره بأعلى الأرض .
ومنهم من حمل { فار } و { التنور } على الحقيقة ، وأخرج الكلام مَخرج التمثيل لاشتداد الحال ، كما يقال : حمي الوطيس . وقع حكاية ذلك في تفسير ابن عطية في هذه الآية وفي الكشاف في تفسير سورة المؤمنون : وأنشد الطبرسي قول الشاعر . وهو النابغة الجعدي
: ... تفورُ علينا قِدرهم فنديمها
ونفثأها عنّا إذا قِدرها غلى ... يريد بالقدر الحرب ، ونفثأها ، أي نسكنها ، يقال : فثأ القِدر إذا سكن غليانها بصب الماء فيها . وهذا أحسن ما حكي عن المفسرين .
والذي يظهر لي أن قوله : { وفارَ التنور } مثَل لبلوغ الشيء إلى أقصَى ما يتحمل مثله ، كما يقال : بلغ السيل الزُبى ، وامتلأ الصاع ، وفاضت الكأس وتفاقم .
والتنور : محفل الوادي ، أي ضفته ، فيكون مثل طَما الوادي من قبيل بلغ السيل الزُبى . والمعنى : بأن نفاذ أمرنا فيهم وبلغوا من طول مدة الكفر مبلغاً لا يغتفر لهم بعدُ كما قال تعالى : { فلما آسفونا انتقمنا منهم } [ الزخرف : 55 ].
والتنور : اسم لمَوقد النار للخبز . وزعمه . الليث مما اتفقت فيه اللغات ، أي كالصابون والسمور . ونسب الخفاجي في شفاء الغليل هذا إلى ابن عباس . وقال أبو منصور : كلام الليث يدل على أنه في الأصل أعجمي .
والدليل على ذلك أنه فعّول من تنر ولا نعرف تنر في كلام العرب لأنه مهمل ، وقال غيره : ليس في كلام العرب نون قبل رَاء فإن نرجس معرب أيضاً .
وقد عدّ في الألفاظ المعربة الواقعة في القرآن . ونظمها ابن السبكي في شرحه على مختصر ابن الحاجب الأصلي ونسب ذلك إلى ابن دريد . قال أبو علي الفارسي : وزنه فَعّول . وعن ثعلب أنه عربي ، قال : وزنه تَفعول من النور ( أي فالتاء زايدة ) وأصله تنوور بواوين ، فقلبت الواو الأولى همزة لانضمامها ثم حذفت الهمزة تخفيفاً ثم شددت النون عوضاً عما حذف أي مثل قوله : تقَضّى البَازي بمعنى تقضّض .
وقرأ الجمهور { من كلّ زوجين } بإضافة { كل } إلى { زوجين }.
والزوج : شيء يكون ثَانياً لآخَرَ في حالة . وأصله اسم لما ينضم إلى فرد فيصير زوجاً له ، وكل منهما زوج للآخر . والمراد ب { زوجين } هنا الذكر والأنثى من النوع ، كما يدل عليه إضافة { كل } إلى { زوجين } ، أي احمل فيها من أزواج جميع الأنواع .
و { من } تبعيضية ، و { اثنين } مفعول { احمل } ، وهو بيان لئلاّ يتوهّم أن يحمل كل زوجين واحداً منهما لأن الزوج هو واحد من اثنين متصلين ، كما تقدم في قوله تعالى : { ثمانية أزواج } في سورة [ الأنعام : 143 ]. ولئلا يحمل أكثر من اثنين من نوع لتضيق السفينة وتثقل .
وقرأه حفص { من كلَ } بتنوين { كلَ } فيكون تنوين عوض عن مضاف إليه ، أي من كل المخلوقات ، ويكون { زوجين } مفعول { احمل } ، ويكون { اثنين } صفة ل { زوجين } أي لا تزد على اثنين .
وأهل الرجل قرابته وأهل بيته وهو اسم جمع لا واحد له . وزوجه أول من يبادر من اللفظ ، ويطلق لفظ الأهل على امرأة الرجل قال تعالى : { فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله } [ القصص : 29 ] ، وقال : { وإذ غدوتَ من أهلك } [ آل عمران : 121 ] أي من عند عائشة رضي الله عنها .
و { من سبق عليه القول } أي من مضى قول الله عليه ، أي وعيده . فالتعريف في { القول } للعهد ، يعني إلاّ من كان من أهلك كافراً . ، وماصدق هذا إحدى امرأتيه المذكورة في سورة التّحريم وابنه منها المذكور في آخر هذه القصة . وكان لنوح عليه السّلام امرأتان .
وعدّي { سبَق } بحرف { على } لتضمين { سَبَق } معنى : حَكَم ، كما عدّي باللام في قوله : { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين } [ الصافات : 171 ] لتضمينه معنى الالتزام النافع .
و { مَن آمن } كلّ المؤمنين .
وجملة { وما آمن معه إلا قليل } اعتراض لتكميل الفائدة من القصة في قلة الصالحين . قيل : كان جميع المؤمنين به من أهله وغيرهم نيفاً وسبعين بين رجال ونساء ، فكان معظم حمولة السفينة من الحَيوان .