تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 4 من سورة قريش
الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
وأجري وصف الرب بطريقة الموصول { الذي أطعمهم من جوع } لما يؤذن به من التعليل للأمر بعبادة رب البيت الحرام بعلة أخرى زيادة على نعمة تيسير التجارة لهم ، وذلك مما جعلهم أهل ثراء ، وهما نعمة إطعامهم وأمنهم . وهذا إشارة إلى ما يُسّر لهم من ورود سفن الحبشة في البحر إلى جدة تحمل الطعام ليبيعوه هناك . فكانت قريش يخرجون إلى جدة بالإِبل والحمر فيشترون الطعام على مسيرة ليلتين . وكان أهل تبالة وجُرَش من بلاد اليمن المخصبة يحملون الطعام على الإِبل إلى مكة فيباع الطعام في مكة فكانوا في سعة من العيش بوفر الطعام في بلادهم ، وكذلك يسر لهم إقامة الأسواق حول مكة في أشهر الحج وهي سوق مجنَّة ، وسوق ذي المَجاز ، وسوق عُكاظ ، فتأتيهم فيها الأرزاق ويتسع العيش ، وإشارة إلى ما ألقي في نفوس العرب من حرمة مكة وأهلها فلا يريدهم أحد بتخويف .
وتلك دعوة إبراهيم عليه السلام إذ قال : { رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات } [ البقرة : 136 ] فلم يتخلف ذلك عنهم إلا حين دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بدعوته : « اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف » فأصابتهم مجاعة وقحط سبع سنين وذلك أوّل الهجرة .
و { مِن } الداخلة على { جوع } وعلى { خوف } معناها البدلية ، أي أطعمهم بدلاً من الجوع وآمنهم بدلاً من الخوف . ومعنى البدلية هو أن حالة بلادهم تقتضي أن يكون أهلها في جوع فإطعامُهم بدلٌ من الجوع الذي تقتضيه البلاد ، وأن حالتهم في قلة العدد وكونهم أهل حضر وليسوا أهل بأس ولا فروسية ولا شكَّة سلاح تقتضي أن يكونوا معرضين لغارات القبائل فجعل الله لهم الأمن في الحرم عوضاً عن الخوف الذي تقتضيه قلتهم قال تعالى : { أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم } [ العنكبوت : 67 ] .
وتنكير { جوع } و { خوف } للنوعية لا للتعظيم إذ لم يحلّ بهم جوع وخوف من قبلُ ، قال مساور بن هند في هجاء بني أسد :
زعمتم أن إخوتَكم قريش ... لهم إِلْفٌ وليس لكم إِلاَف
أولئك أُومِنوا جُوعاً وخَوفاً ... وقد جاعت بنو أسد وخافوا