تفسير ابن عاشور
تفسير الآية رقم 24 من سورة يونس
هذه الآية تتنزل منزلة البيان لجملة { متاع الحياة الدنيا } [ يونس : 23 ] المؤذنة بأن تمتعهم بالدنيا ما هو إلا لمدة قصيرة ، فبينت هذه الآية أن التمتع صائر إلى زوال ، وأطنبت فشبهت هيئة التمتع بالدنيا لأصحابها بهيئة الزرع في نضارته ثم في مصيره إلى الحصد .
والمثَل : الحال الماثلة على هيئة خاصة ، كان التشبيه هنا تشبيه حالة مركبة بحالة مركبة . عبر عن ذلك بلفظ المثل الذي شاع في التشبيه المركب كما تقدم في أول سورة البقرة .
وصيغة القصر لتأكيد المقصُود من التشبيه وهو سرعة الانقضاء . ولتنزيل السامعين منزلة من يحسب دوام بهجة الحياة الدنيا لأن حالهم في الانكباب على نعيم الدنيا كحال من يحسب دوامه وينكر أن يكون له انقضاء سريع ومفاجىء . والمعنى : قصرُ حالة الحياة الدنيا على مشابهة حالة النبات الموصوف ، فالقصر قصر قلب ، بني على تنزيل المخاطبين منزلة من يعتقد عكس تلك الحالة .
شبهت حالة الحياة في سرعة تقضيها وزوال نعيمها بعد البهجة به وتزايد نضارتها بحال نبات الأرض في ذهابه حطاماً ومصيره حصيداً . ومن بديع هذا التشبيه تضمنه لتشبيهات مفرقة من أطوار الحالين المتشابهين بحيث يصلح كل جزء من هذا التشبيه المركب لتشبيه جزءٍ من الحاليْن المتشابهين ، ولذلك أطنب وصف الحالين من ابتدائه .
فقوله : { كماء أنزلناه من السماء } شُبه به ابتداء أطوار الحياة من وقت الصبا إذ ليس ثمة سوى الأمل في نعيم العيش ونضارته ، فذلك الأمل يشبه حال نزول المطر من السماء في كونه سبب ما يؤمَّل منه مِن زخرف الأرض ونضارتها .
وقوله : { فاختلط به نبات الأرض } شُبه به طور ابتداء نضارة العيش وإقبال زهرة الحياة ، فذلك يشبه خروج الزرع بعيد المطر فيما يشاهد من بوارق المأمول ، ولذلك عطف بفاء التعقيب للإيذان بسرعة ظهور النبات عقب المطر فيؤذن بسرعة نماء الحياة في أول أطوارها . وعبر عنه بالاختلاط بالماء بحيث ظهر قبل جفاف الماء ، أي فاختلط النبات بالماء أي جاوره وقارنه .
وقوله : { مما يأكل الناس والأنعام } وصف لنبات الأرض الذي منه أصناف يأكلها الناس من الخضروات والبقول ، وأصنافٌ تأكلها الأنعام من العشب والكلأ ، وذلك يشبَّه به ما ينعَم به الناس في الحياة من اللذات وما ينعم به الحيوان ، فإن له حظاً في نعيم الحياة بمقدار نطاق حياته .
ولما كان ذلك قد تضمن المأكول والآكل صح أن تُشبه به رغَبات الناس في تناول لذائذ الحياة على حسب اختلاف مراتب الهمم ، وذلك يتضمن تشبيه معالي الأمور من نعم الدنيا التي تسمو إليها الهمم العوالي بالنبات الذي يقتاته الناس ، وتشبيهَ سفاسف الأمور بالنبات الذي يأكله الأنعام ، ويتضمن تشبيه الذين يجنحون إلى تلك السفاسف بالأنعام ، كقوله تعالى : { والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام }
[ محمد : 12 ].
والقول في { حتى إذا أخذت الأرض زخرفها } كالقول في قوله : { حتى إذا كنتم في الفلك } [ يونس : 22 ] ، وهو غاية شبه بها بلوغ الانتفاع بخيرات الدنيا إلى أقصاه ونضوجه وتمامه وتكاثر أصنافه وانهماك الناس في تناولها ونسيانهم المصير إلى الفناء .
وأمر الله : تقديره وتكوينه . وإتيانه : إصابة تلك الأرض بالجوائح المعجلة لها باليبس والفناء . وفي معنى الغاية المستفادِ من ( حتى ) ما يؤذن بأن بين مبدأ ظهور لذات الحياة وبين منتهاها مراتب جمة وأطواراً كثيرة ، فذلك طوي في معنى ( حتى ).
وقوله : { ليلاً أو نهاراً } ترديد في الوقت لإثارة التوقع من إمكان زوال نضارة الحياة في جميع الأزمنة لأن الشيء الموقت بمعين من التوقيت يكون الناس في أمن من حلوله في غير ذلك الوقت .
والزخرف : اسم الذهب . وأطلق على ما يتزين به مما فيه ذهب وتلوين من الثياب والحلي .
وإطلاق أخذ الأرض زخرفها على حصول الزينة فيها استعارةٌ مكنية . شبهت الأرض بالمرأة حين تريد التزين فتُحضر فاخر ثيابها من حلي وألوان . والعرب يطلقون على ذلك التناول اسم الأخذ ، قال تعالى : { يا بني آدم خُذوا زينتكم عند كل مسجد } [ الأعراف : 31 ] ، وقال بشار بن برد
وخُذي ملابس زينة ... ومُصَبَّغات وهي أفخر
وذكر { ازينت } عقب { زخرفها } ترشيح للاستعارة ، لأن المرأة تأخذ زخرفها للتزين . و { ازّينت } أصله تزينت فقلبت التاء زَاياً؛ لتدغم في الزاي فسكنت وأدغمت واجتلبت همزة الوصل لأجل النطق بالساكن .
واعلم أن في قوله تعالى : { أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً } إشارة لإرادة الاستئصال فهو ينذر بالتهديد للكافرين ويجعل التمثيل أعلق بحياتهم ، كقوله تعالى : { حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون } [ الأنعام : 44 ] لا سيما وقد ضرب هذا المثل لتمتع الكافرين ببغيهم وإمهالهم عليه ، ويزيد تلك الإشارة وضوحاً قوله : { وظن أهلها أنهم قادرون عليها } المؤذنُ بأن أهلها مقصودون بتلك الإصابة .
ومعنى : { أنهم قادرون عليها } أنهم مستمرون على الانتفاع بها محصلون لثمراتها ، فأطلق على التمكن من الانتفاع ودوامه لفظ القدرة على وجه الاستعارة .
والحصيد : المحصود ، وهو الزرع المقطوع من منابته . والإخبار عن الأرض بحصيد على طريقة المجاز العقلي وإنما المحصود نباتها . ومعنى { لم تغْنَ } لم تَعْمُر ، أي لم تعمر بالزرع . يقال : غَنِي المكان إذا عَمَر . ومنه المغنَى للمكان المأهول . وضد أغنى أقفر المكان .
والباء في { بالأمس } للظرفية . والأمس : اليوم الذي قبل يومك . واللام فيه مزيدة لتملية اللفظ مثل التي في كلمة الآن . والمراد بالأمس في الآية مطلق الزمن الذي مضى لأن أمس يستعمل بمعنى ما مضى من الزمان ، كما يستعمل الغد في معنى المستقبل واليوم في معنى الحال . وجمَعَها قولُ زهير
: ... وأعلم عِلم اليوم والأمسسِ قبلَه
ولكنني عن عِلم ما في غد عَمِ ... وجملة : { كذلك نفصل الآيات } إلى آخرها تذييل جامع ، أي مثل هذا التفصيل نفصل أي نبين الدلالات كلها الدالة على عموم العلم والقدرة وإتقان الصنع . فهذه آية من الآيات المبينة وهي واحدة من عموم الآيات . وتقدم نظيره في قوله تعالى : { وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيلَ المجرمين } في سورة [ الأنعام : 55 ].
واللام في لقوم يتفكرون } لام الأجْل .
والتفكر : التأمل والنظر ، وهو تفعل مشتق من الفكر ، وقد مر عند قوله تعالى : { قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون } في سورة [ الأنعام : 50 ]. وفيه تعريض بأن الذين لم ينتفعوا بالآيات ليسوا من أهل التفكر ولا كان تفصيل الآيات لأجلهم . وتقدم ذكر لفظ القوم غير مرة في هذه السورة .