تفسير الطبري
تفسير الآية رقم 27 من سورة الأنفال
القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين بالله ورسوله من أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله=(لا تخونوا الله) ، وخيانتهم الله ورسوله، كانت بإظهار من أظهر منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الإيمانَ في الظاهر والنصيحةَ, وهو يستسرُّ الكفر والغش لهم في الباطن, يدلُّون المشركين على عورتهم, ويخبرونهم بما خفى عنهم من خبرهم. (13)
* * *
وقد اختلف أهل التأويل فيمن نـزلت هذه الآية, وفي السبب الذي نـزلت فيه.
فقال بعضهم: نـزلت في منافق كتب إلى أبي سفيان يطلعه على سرِّ المسلمين.
* ذكر من قال ذلك.
15922- حدثنا القاسم بن بشر بن معروف قال، حدثنا شبابة بن سوار قال، حدثنا محمد بن المُحْرِم قال، لقيت عطاء بن أبي رباح فحدثني قال، حدثني جابر بن عبد الله: أن أبا سفيان خرج من مكة, فأتى جبريلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا! فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا، فاخرجوا إليه واكتموا!" قال: فكتب رجل من المنافقين إلى أبي سفيان: " إن محمدًا يريدكم, فخذوا حذركم "! فأنـزل الله عز وحل: (لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم). (14)
وقال آخرون: بل نـزلت في أبي لبابة، في الذي كان من أمره وأمر بني قريظة. (15)
* ذكر من قال ذلك.
15923 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني أبو سفيان, عن معمر, عن الزهري, قوله: " لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم "، قال: نـزلت في أبي لبابة, بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إلى حلقه: إنه الذَّبح= قال الزهري: فقال، أبو لبابة: لا والله، لا أذوق طعامًا ولا شرابًا حتى أموتَ أو يتوب الله عليَّ! فمكث سبعة أيام لا يذوق طعامًا ولا شرابًا حتى خر مغشيًّا عليه, ثم تاب الله عليه. فقيل له: يا أبا لبابة، قد تِيبَ عليك! قال: والله لا أحُلُّ نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يَحُلّني. فجاءه فحله بيده. ثم قال أبو لبابة: إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت بها الذنب، وأن أنخلع من مالي! قال: " يجزيك الثلث أن تصدَّق به. (16)
15924 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير, عن ابن عيينة قال، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد قال: سمعت عبد الله بن أبي قتادة يقول: نـزلت: " يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون " في أبي لبابة. (17)
* * *
وقال آخرون: بل نـزلت في شأن عثمان رحمة الله عليه.
* ذكر من قال ذلك.
15925 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا يونس بن الحارث الطائفي (18) قال، حدثنا محمد بن عبيد الله بن عون الثقفي, عن المغيرة بن شعبة قال: نـزلت هذه الآية في قتل عثمان رحمة الله عليه: " يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول " الآية.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله نهى المؤمنين عن خيانته وخيانة رسوله، وخيانة أمانته= وجائز أن تكون نـزلت في أبي لبابة= وجائز أن تكون نـزلت في غيره, ولا خبر عندنا بأيِّ ذلك كان يجب التسليم له بصحته.
فمعنى الآية وتأويلها ما قدمنا ذكره.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
15926 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد, في قوله: " يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول " قال: نهاكم أن تخونوا الله والرسول, كما صنع المنافقون.
15927 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط. عن السدي: " لا تخونوا الله والرسول " الآية، قال: كانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم الحديث فيفشونه حتى يبلغ المشركين.
* * *
واختلفوا في تأويل قوله: " وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون ".
فقال بعضهم: لا تخونوا الله والرسول, فإن ذلك خيانة لأمانتكم وهلاك لها.
* ذكر من قال ذلك.
15928 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: " يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم "، فإنهم إذا خانوا الله والرسول فقد خانوا أماناتهم.
15929 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: " يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون "، أي لا تظهروا لله من الحق ما يرضى به منكم، ثم تخالفوه في السرِّ إلى غيره, فإن ذلك هلاك لأماناتكم، وخيانة لأنفسكم. (19)
* * *
قال أبو جعفر: فعلى هذا التأويل قوله: " وتخونوا أماناتكم "، في موضع نصب على الصرف (20)
كما قال الشاعر: (21)
لا تَنْــهَ عَـنْ خُـلُقٍ وَتَـأْتِيَ مِثْلَـهُ
عــارٌ عَلَيْــكَ إِذَا فَعَلْــتَ عَظِيـمُ (22)
ويروى: " وتأتي مثله ". (23)
* * *
وقال آخرون: معناه: لا تخونوا الله والرسول, ولا تخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون.
* ذكر من قال ذلك.
15930 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: " يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم "، يقول: " لا تخونوا ": يعني لا تنقصُوها.
* * *
قال أبو جعفر: فعلى هذا التأويلُ: لا تخونوا الله والرسول, ولا تخونوا أماناتكم.
واختلف أهل التأويل في معنى: الأمانة، التي ذكرها الله في قوله: " وتخونوا أماناتكم ".
فقال بعضهم: هي ما يخفى عن أعين الناس من فرائض الله.
* ذكر من قال ذلك.
15931- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس, قوله: " وتخونوا أماناتكم "، و " الأمانة ": الأعمال التي أمِن الله عليها العباد= يعني: الفريضة. يقول: " لا تخونوا "، يعني: لا تنقصوها.
15932 - حدثنا علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس, قوله: " يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله "، يقول: بترك فرائضه= " والرسول "، يقول: بترك سننه، وارتكاب معصيته= قال: وقال مرة أخرى: " لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم "، والأمانة: الأعمال، ثم ذكر نحو حديث المثنى.
* * *
وقال آخرون: معنى " الأمانات "، ههنا، الدِّين.
* ذكر من قال ذلك.
15933 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد, في قوله: " وتخونوا أماناتكم " دينكم= " وأنتم تعلمون "، قال: قد فعل ذلك المنافقون، وهم يعلمون أنهم كفار, يظهرون الإيمان. وقرأ: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى [سورة النساء: 142]. قال: هؤلاء المنافقون، أمنهم الله ورسوله على دينه، فخانوا, أظهروا الإيمان وأسرُّوا الكفر.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذن: يا أيها الذين آمنوا، لا تنقصوا الله حقوقه عليكم من فرائضه، ولا رسوله من واجب طاعته عليكم, ولكن أطيعوهما فيما أمراكم به ونهياكم عنه, لا تنقصوهما= " وتخونوا أماناتكم ", وتنقصوا أديانكم, وواجب أعمالكم, ولازمَها لكم= " وأنتم تعلمون "، أنها لازمة عليكم، وواجبة بالحجج التي قد ثبتت لله عليكم.
------------------
الهوامش :
(13) انظر تفسير " الخيانة " فيما سلف 9 : 190 .
(14) الأثر : 15922 - " القاسم بن بشر بن معروف " ، شيخ الطبري ، مضى برقم 10509 ، 10531 .
و " شبابة بن سوار الفزاري " ، ثقة ، مضى مرارًا : 37 ، 6701 ، 10051 ، وغيرها .
و " محمد المحرم " ، هو : " محمد بن عمر المحرم " ، وقد ترجم صاحب لسان الميزان لثلاثة : " محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير المكي " ( ج 5 : 216 ) ، و " محمد بن عمر المحرم " ج ( 5 : 320 ، ) و " محمد المحرم " ( ج 5 : 439 ) ، وقال هم واحد ، وأن " محمد بن عمر " صوابه : " محمد ابن عمير " منسوبًا إلى جده . و " محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي " ، مضى برقم : 7484 .
وترجم البخاري في الكبير 1 1 142 " محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي المكي " ، عن عطاء ، وليس بذاك الثقة . ولم يذكر أنه " محمد المحرم " .
ثم ترجم أيضًا في الكبير 1 1 248 " محمد المحرم " ، عن عطاء والحسن ، منكر الحديث . فكأنهما عنده رجلان .
وترجم ابن أبي حاتم 3 2 300 " محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي " ، وضعفه ، ولم يذكر أنه " محمد المحرم " .
ثم ترجم " محمد بن عمر المحرم " ، روى عن عطاء ، روى عنه شبابة ، وقال : " ضعيف الحديث ، واهي الحديث " ، ولم يذكر أنه الذي قبله .
وترجم الذهبي في ميزان الاعتدال 3 : 77 " محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي " ، ويقال له : " محمد المحرم " .
ثم ترجم في الميزان 3 : 113 " محمد بن عمر المحرم " عن عطاء ، وعنه شبابة ، وضعفه ، ولم يذكر أنه الذي قبله .
وترجم عبد الغني بن سعيد في والمؤتلف والمختلف : 117 ، " محمد بن عبيد بن عمير المحرم " ، عن : " عطاء بن أبي رباح " .
والظاهر أن الذي قاله الحافظ في لسان الميزان ، من أن هؤلاء جميعًا واحد ، هو الصواب إن شاء الله ، من أنهم جميعًا رجل واحد .
وكان في المطبوعة : " محمد بن المحرم " ، غير ما كان في المخطوطة بزيادة " بن " بينهما .
وهذا خبر ضعيف جدًا ، لضعف " محمد المحرم " ، وهو متروك الحديث . وقد ذكر الخبر ابن كثير في تفسيره 4 : 43 ، 44 ، ثم قال : " هذا الحديث غريب جدًا ، وفي سنده وسياقه نظر " .
(15) في المطبوعة والمخطوطة : " في أبي لبابة ، الذي كان من أمره " ، والسياق يقتضي زيادة " في " كما أثبتها .
(16) الأثر : 15923 - خبر أبي لبابة بن عبد المنذر الأنصاري ، حين فعل ذلك يوم بنى قريظة ، وعرف أنه خان الله ورسوله ، في سيرة ابن هشام 3 : 247 ، 248 ، وفي غيره . ثم إنه لما عرف ذلك ارتبط في سارية المسجد ، وقال : " لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله علي مما صنعت " .
ورواه الواحدي في أسباب النزول : 175 ، وروى بعضه مالك في الموطأ : 481 .
(17) الأثر : 15924 - " عبد الله بن أبي قتادة الأنصاري " . تابعي ثقة ، روى له الجماعة ، مترجم في التهذيب .
(18) الأثر : 15925 - " يونس بن الحارث الطائفي الثقفي " ، ضعيف ، إلا أنه لا يتهم بالكذب ، وقال ابن معين : " كنا نضعفه ضعفًا شديدًا " . وقال أحمد : " أحاديثه مضطربة " .
مترجم في التهذيب ، والكبير 4 2 409 ، ولم يذكر فيه جرحًا ، وابن أبي حاتم 4 2 237 ، وضعفه .
و " محمد بن عبيد الله بن سعيد " ، " أبو عون الثقفي " ثقة ، مضى برقم : 7595 ، 13965 ، 15659 .
وكان في المطبوعة : " محمد بن عبد الله بن عون الثقفي " ، ومثله في المخطوطة . إلا أنه قد يقرأ " محمد بن عبيد الله " ، والصواب ما أثبت ، لأن يونس بن الحارث الطائفي ، يروي عن أبي عون الثقفي ، و " أبو عون " اسم جده " سعيد " لا " عون " .
و " أبو عون الثقفي " ، لا أظنه روى عن المغيرة بن شعبة ، فالمغيرة مات سنة خمسين ، ويقال قبلها . والمذكور في ترجمته أنه يروي عن " عفان بن المغيرة بن شعبة " ، فهذا إسناد منقطع على الأرجح عندي .
وقوله : " نزلت في قتل عثمان " ، يعني أن حكمها يشمل فعل عثمان رضي الله عنه، فإنه قتل خيانة لله ولرسوله ، وخيانة للأمانة ، إذ نقض القتلة بيعة له في أعناقهم ، رحم الله عثمان وغفر له .
(19) الأثر : 15929 - سيرة ابن هشام 2 : 325 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 15873.
(20) في المطبوعة : " على الظرف " ، وفي المخطوطة : " على الطرف " ، والصواب ما أثبت . وانظر معنى " الصرف " فيما سلف من فهارس المصطلحات .
وانظر معاني القرآن للفراء 1 : 408 .
(21) هو المتوكل الليثي ، وينسب لغيره .
(22) سلف البيت ، وتخريجه 1 : 569 3 : 552 .
(23) يعني على غير النصب .