تفسير الطبري
تفسير الآية رقم 16 من سورة الأنفال
ومن يولهم يومئذ دبره "، يقول: ومن يولهم منكم ظهره =(إلا متحرفًا لقتال)، يقول: إلا مستطردًا لقتال عدوه، يطلب عورةً له يمكنه إصابتها فيكرّ عليه =(أو متحيزًا إلى فئة) أو: إلا أن يوليهم ظهره متحيزًا إلى فئة, يقول: صائرًا إلى حَيِّز المؤمنين الذين يفيئون به معهم إليهم لقتالهم، (66) ويرجعون به معهم إليهم. (67)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
15795- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر, عن جويبر, عن الضحاك: (إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة)، قال: " المتحرف "، المتقدم من أصحابه ليرى غِرَّة من العدوّ فيصيبها. قال، و " المتحيز "، الفارّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وكذلك من فرّ اليوم إلى أميره أو أصحابه. قال الضحاك: وإنما هذا وعيد من الله لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أن لا يفروا. وإنما كان النبيُّ عليه الصلاة والسلام و أصحابه فئتَهم. (68)
15796- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة)، أما " المتحرف "، يقول: إلا مستطردًا, يريد العودة=(أو متحيزًا إلى فئة)، قال: " المتحيز "، إلى الإمام وجنده إن هو كرّ فلم يكن له بهم طاقة, ولا يُعذَر الناس وإن كثروا أن يُوَلُّوا عن الإمام.
* * *
واختلف أهل العلم في حكم قول الله عز وجل: (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم)، هل هو خاص في أهل بدر, أم هو في المؤمنين جميعًا؟
فقال قوم: هو لأهل بدر خاصة, لأنه لم يكن لهم أن يتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عدوه وينهزموا عنه، فأما اليومَ فلهم الانهزام.
* ذكر من قال ذلك:
15797- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود, عن أبي نضرة في قول الله عز وجل: (ومن يولهم يومئذ دبره)، قال: ذاك يوم بدر, ولم يكن لهم أن ينحازوا, ولو انحاز أحدٌ لم ينحز إلا إلي (69) = قال أبو موسى: يعني: إلى المشركين.
15798- حدثنا إسحاق بن شاهين قال، حدثنا خالد, عن داود, عن أبي نضرة, عن أبي سعيد قوله عز وجل: (ومن يولهم يومئذ دبره)، ثم ذكر نحوه= إلا أنه قال: ولو انحازوا انحازوا إلى المشركين, ولم يكن يومئذ مسلم في الأرض غيرهم.
15799- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن مفضل قال، حدثنا داود, عن أبي نضرة, عن أبي سعيد قال: نـزلت في يوم بدر: (ومن يولهم يومئذ دبره) .
15800 - حدثني ابن المثنى, وعلي بن مسلم الطوسي= قال ابن المثنى: حدثني عبد الصمد= وقال علي: حدثنا عبد الصمد= قال، حدثنا شعبة, عن داود, يعني ابن أبي هند, عن أبي نضرة, عن أبي سعيد: (ومن يولهم يومئذ دبره)، قال: يوم بدر= قال أبو موسى: حدثت أن في كتاب غندر هذا الحديث: عن داود, عن الشعبي, عن أبي سعيد.
15801 - حدثنا أحمد بن محمد الطوسي قال، حدثنا علي بن عاصم, عن داود بن أبي هند, عن أبي نضرة, عن أبي سعيد الخدري قال: إنما كان ذلك يوم بدر، لم يكن للمسلمين فئة إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأما بعد ذلك, فإن المسلمين بعضهم فئة لبعض. (70)
15802 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود, عن أبي نضرة: (ومن يولهم يومئذ دبره)، قال: هذه نـزلت في أهل بدر.
15803- حدثنا يعقوب قال، حدثنا ابن علية, عن ابن عون قال: كتبت إلى نافع أسأله عن قوله: (ومن يولهم يومئذ دبره)، أكان ذلك اليوم، أم هو بعد؟ قال: وكتب إليّ: " إنما كان ذلك يوم بدر ".
15804- حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا زيد, عن سفيان, عن جويبر, عن الضحاك قال: إنما كان الفرار يوم بدر, ولم يكن لهم ملجأ يلجأون إليه. فأما اليوم، فليس فرارً.
15805 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن الربيع, عن الحسن: (ومن يولهم يومئذ دبره)، قال: كانت هذه يوم بدر خاصة, ليس الفرار من الزحف من الكبائر.
15806- . . . . قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن رجل, عن الضحاك: (ومن يولهم يومئذ دبره)، قال: كانت هذه يوم بدر خاصة.
15807- . . . . قال، حدثنا روح بن عبادة, عن حبيب بن الشهيد, عن الحسن: (ومن يولهم يومئذ دبره)، قال: نـزلت في أهل بدر.
15808- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد, عن قتادة: (ومن يولهم يومئذ دبره)، قال: ذلكم يوم بدر.
15809 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك. عن المبارك بن فضالة, عن الحسن: (ومن يولهم يومئذ دبره)، قال: ذلك يوم بدر. فأما اليوم، فإن انحاز إلى فئة أو مصر = أحسبه قال: فلا بأس به.
15810 - حدثني المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا سفيان, عن ابن عون قال: كتبت إلى نافع: (ومن يولهم يومئذ دبره) ، قال: إنما هذا يوم بدر.
15811- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، حدثنا ابن المبارك, عن ابن لهيعة قال، حدثني يزيد بن أبي حبيب قال: أوجب الله لمن فرّ يوم بدر النارَ. قال: (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة فقد باء بغضب من الله)، فلما كان يوم أحد بعد ذلك قال: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ [سورة آل عمران: 155] . ثم كان حنين، بعد ذلك بسبع سنين فقال: ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [سورة التوبة: 25]: ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ [سورة التوبة: 27] .
15812- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا ابن عون, عن محمد, أن عمر رحمة الله عليه بلغه قتل أبي عبيدٍ فقال: لو تحيز إليّ! إنْ كنتُ لَفِئَةً! (71)
15813- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، حدثنا ابن المبارك, عن جرير بن حازم قال، حدثني قيس بن سعد قال: سألت عطاء بن أبي رباح عن قوله: (ومن يولهم يومئذ دبره)، قال: هذه منسوخة بالآية التي في الأنفال: الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ، [سورة الأنفال: 66]. قال: وليس لقوم أن يفرُّوا من مثلَيْهم. قال: ونسخت تلك إلا هذه العِدّة. (72)
15814 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن سليمان التيمي, عن أبي عثمان قال: لما قتل أبو عبيد، جاء الخبر إلى عمر فقال: يا أيها الناس، أنا فئتكم. (73)
15815- . . . . قال: ابن المبارك, عن معمر وسفيان الثوري وابن عيينة, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: قال عمر رضي الله عنه: أنا فئة كل مسلم.
* * *
وقال آخرون: بل هذه الآية حكمها عام في كل من ولى الدبر عن العدو منهزمًا.
* ذكر من قال ذلك:
15816- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قال: أكبر الكبائر الشرك بالله, والفرار من الزحف، لأن الله عز وجل يقول: (ومن يولهم يومئذ دبره... فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير) .
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في هذه الآية بالصواب عندي قولُ من قال: حكمها محكم, وأنها نـزلت في أهل بدر, وحكمها ثابت في جميع المؤمنين, وأن الله حرّم على المؤمنين إذا لقوا العدو، أن يولوهم الدبر منهزمين إلا لتحرفٍ القتال, أو لتحيز إلى فئة من المؤمنين حيث كانت من أرض الإسلام, وأن من ولاهم الدبر بعد الزحف لقتالٍ منهزمًا بغير نية إحدى الخلتين اللتين أباح الله التولية بهما, فقد استوجب من الله وعيده، إلا أن يتفضل عليه بعفوه.
وإنما قلنا هي محكمة غير منسوخة, لما قد بينا في غير موضع من كتابنا هذا وغيره: (74) أنه لا يجوز أن يحكم لحكم آية بنسخ، وله في غير النسخ وجه، إلا بحجة يجب التسليم لها، من خبر يقطع العذر، أو حجة عقل, ولا حجة من هذين المعنيين تدل على نسخ حكم قول الله عز وجل: (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة) .
* * *
وأما قوله: (فقد باء بغضب من الله)، يقول: فقد رجع بغضب من الله (75) =(ومأواه جهنم)، يقول: ومصيره الذي يصير إليه في معاده يوم القيامة جهنم (76) = " وبئس المصير ", يقول: وبئس الموضع الذي يصير إليه ذلك المصير. (77)
-------------------
الهوامش :
(66) انظر تفسير " فئة " فيما سلف 9 : 7 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(67) في المطبوعة : " يرجعون به معهم إليهم " ، وأثبت ما في المخطوطة .
(68) في المطبوعة : حذف " و أصحابه " ، تحكمًا .
(69) وقف على قوله : " إلى " ، كأنه يشير بيده إلى الفئة الأخرى ، والتي فسرها أبو موسى ، وهو ابن المثنى ، بقوله : يعني : إلى المشركين .
(70) الآثار : 15797 - 15801 - " داود " هو " ابن أبي هند " مضى مرارًا .
و " أبو نضرة " هو " المنذر بن مالك بن قطعة العبدي " ، ثقة ، مضى مرارًا آخرها رقم : 14664 .
و " أبو سعيد " ، هو أبو سعيد الخدري ، صاحب رسول الله .
وهذا الخبر رواه الحاكم في المستدرك 2 : 327 ، من طريق شعبة ، عن داود بن أبي هند ، بمثله ، وقال : " هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه " ، ووافقه الذهبي .
(71) الأثر : 15812 - " أبو عبيدة بن مسعود الثقفي " ، صحابي وهو صاحب يوم الجسر المعروف بجسر أبي عبيد . وكان عمر ولى الخلافة ، عزل خالد بن الوليد عن العراق والأعنة ، وولى أبا عبيد بن مسعود الثقفي سنة 13 . ولما وجه يزدجر جموعه إلى جيش أبي عبيد ، عبر أبو عبيد الجسر في المضيق ، فاقتتلوا قتالا شديدًا ، وأنكى أبو عبيد في الفرس : وضرب أبو عبيد مشفر الفيل ، فبرك عليه الفيل فقتله . واستشهد من المسلمين يومئذ ألف وثمانمائة ، ويقال أربعة آلاف ، ما بين قتيل وغريق . انظر الاستيعاب : 671، وتاريخ الطبري 4: 67 – 70 . وانظر الأثر رقم : 15814 ، 15815 . وفي كثير من الكتب " أبو عبيدة " في هذا الخبر ، وهو خطأ .
وكان في المطبوعة هنا : " لو تحيز إلى لكنت له فئة " ، غير ما في المخطوطة بلا أمانة ولا معرفة .
(72) الأثر : 15813 - " قيس بن سعد المكي " ، ثقة ، مضى برقم : 2943 ، 9413 ، وكان في المخطوطة والمطبوعة : " قيس بن سعيد " ، وهو خطأ .
(73) الأثر : 15814 - " أبو عثمان " ، مجهول ، روى عن أنس بن مالك ، ومعقل بن يسار . روى عنه " سليمان التيمي " ، قال ابن المديني : " لم يرو عنه غيره ، وهو مجهول " مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 4 2 408 .
(74) انظر ما قاله في " النسخ " ، في فهارس الموضوعات ، وفي فهارس اللغة والنحو وغيرها .
(75) انظر تفسير " باء " فيما سلف 10 : 216 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
(76) انظر تفسير " مأوى " فيما سلف 10 : 481 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .
(77) انظر تفسير " المصير " فيما سلف 9 : 205 ، تعليق : 5 ، والمراجع هناك .