تفسير الطبري
تفسير الآية رقم 18 من سورة الأعراف
القول في تأويل قوله : قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن إحلاله بالخبيث عدوِّ الله ما أحلّ به من نقمته ولعنته, وطرده إياه عن جنته, إذ عصاه وخالف أمره, وراجعه من الجواب بما لم يكن له مراجعته به . يقول: قال الله له عند ذلك: (اخرج منها)، أي من الجنة =(مذؤُومًا مدحورًا)، يقول: مَعِيبًا.
* * *
و " الذأم "، العيب. يقال منه: " ذأمَه يذأمه ذأمًا فهو مذؤوم ", ويتركون الهمز فيقولون: " ذِمْته أذيمه ذيمًا وذامًا ", و " الذأم " و " الذيم "، أبلغ في العيب من " الذمّ"، وقد أنشد بعضهم هذا البيت: (41)
صَحِـبْتُكَ إذْ عَيْنِـي عَلَيْهَـا غِشَـاوَةٌ
فَلَمَّـا انْجَـلَتْ قَطَّعْـتُ نَفْسِـي أَذِيمُهَا (42)
وأكثر الرواة على إنشاده " ألومها ".
* * *
وأما المدحور: فهو المُقْصَى, يقال: " دحره يدحَرُه دَحْرًا ودُحُورًا "، إذا أقصاه وأخرجه، ومنه قولهم: " ادحَرْ عنكَ الشيطان ". (43)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
14384- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: (اخرج منها مذؤومًا مدحورًا)، يقول: اخرج منها لعينًا منفيًّا.
14385- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: " مذؤومًا " ممقوتًا.
14386- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبى قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: (قال اخرج منها مذؤومًا)، يقول: صغيرًا منفيًّا.
14387- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: (اخرج منها مذؤومًا مدحورًا)، أما " مذؤومًا "، فمنفيًّا, وأما " مدحورا "، فمطرودًا.
14388- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: (مذؤومًا)، قال: منفيًّا =(مدحورًا)، قال: مطرودًا.
14389- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: (اخرج منها مذؤومًا)، قال: منفيًّا. = و " المدحور ", قال: المصغَّر.
14390- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال:، حدثنا عبد الله بن الزبير, عن ابن عيينة, عن يونس وإسرائيل, عن أبي إسحاق, عن التميمي, عن ابن عباس: (اخرج منها مذؤومًا)، قال: منفيًّا.
14391- حدثني أبو عمرو القرقساني عثمان بن يحيى قال، حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن التميمي, سأل ابن عباس: ما(اخرج منها مذؤومًا مدحورًا)، قال: مقيتًا. (44)
14392- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (اخرج منها مذؤومًا مدحورًا)، فقال: ما نعرف " المذؤوم " و " المذموم " إلا واحدًا, ولكن تكون حروف منتقصة, وقد قال الشاعر لعامر: يا " عام ", ولحارث: " يا حار ", (45) وإنما أنـزل القرآن على كلام العرب.
* * *
القول في تأويل قوله : لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
قال أبو جعفر: وهذا قسم من الله جل ثناؤه. أقسم أن مَنْ اتبع من بني آدم عدوَّ الله إبليس وأطاعه وصَدَّق ظنه عليه، أن يملأ من جميعهم = يعني: من كفرة بني آدم تُبّاع إبليس، ومن إبليس وذريته = جهنم. فرحم الله امرأً كذّب ظن عدوِّ الله في نفسه, وخيَّب فيها أمله وأمنيته, ولم يمكّن من طمعَ طمعٍ فيها عدوَّه, (46) واستغشَّه ولم يستنصحه، فإن الله تعالى ذكره إنما نبّه بهذه الآيات عباده على قِدَم عداوة عدوِّه وعدوهم إبليس لهم, وسالف ما سلف من حسده لأبيهم, وبغيه عليه وعليهم, وعرّفهم مواقع نعمه عليهم قديمًا في أنفسهم ووالدهم ليدّبروا آياته, وليتذكر أولو الألباب, فينـزجروا عن طاعة عدوه وعدوهم إلى طاعته ويُنيبوا إليها.
---------------------
الهوامش :
(41) هو الحارث بن خالد المخزومي .
(42) مضى البيت وشرحه وتخريجه ، وبغير هذه الرواية فيما سلف 1 : 265 .
(43) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 212 .
(44) الأثر : 14391 - (( أبو عمرو القرقساني )) ، (( عثمان بن يحيى )) ، شيخ الطبري ، لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من الكتب . ويزيد الأمر إشكالا أني وجدت أبا جعفر في تاريخه يذكر إسنادًا عن شيخ يقال له (( عثمان بن يحيى )) ، فيه نصه : (( حدثني عثمان بن يحيى ، عن عثمان القرقساني ، قال حدثنا سفيان بن عيينة )) ، فجعل بين (( عثمان بن يحيى )) و (( سفيان بن عيينة )) رجلا يقال له (( عثمان القرقساني )) ! والذي في التفسير يدل على أن الراوي عن سفيان بن عيينة هو (( عثمان بن يحيى )) نفسه . فظني أن في إسناد التاريخ خطأ ، ولعل صوابه : (( حدثني عثمان بن يحيى بن عثمان القرقساني ، قال حدثنا سفيان بن عيينة )) . هذا ما وجدت ، فعسى أن يجتمع عندي ما أتبين به صواب ذلك أو خطأه .
(45) في المطبوعة : (( ولكن يكون منتقصة ، وقال العرب لعامر ...)) ، وبين الكلام بياض . وفي المخطوطة : (( ولكن تكون ف منتقصة . وقد قال الشاعر ... )) بياض بين الكلام ، فغير ناشر المطبوعة ما في المخطوطة بلا أمانة . وفي المخطوطة فوق البياض (( كذا )) وفي الهامش حرف ( ط ) للدلالة على الخطأ . ودلتني لافاء بعد البياض أن صواب هذا الذي بيض له ناسخ المخطوطة هو (( حروف )) ، فاستقام الكلام .
ومثال الترخيم في (( عامر )) قول الحطيئة لعامر بن الطفيل :
يَـا عَـامِ ، قـد كُـنْتَ ذَا بَاعٍ وَمَكْرُمَةٍ
لَــوْ أَنَّ مَسْـعَاةَ مَـنْ جَارَيْتَـهُ أَمَـمُ
ومثال الترخيم في (( الحارث )) قول زهير :
يَـا حـارِ ، لا أُرْمَيَـنْ مِنْكُـمْ بِدَاهِيَـةٍ
لَــم يَلْقَهَـا سُـوقَةٌ قَبْـلِي وَلا مَلِـكُ
(46) في المطبوعة : (( ولم يكن ممن طمع فيها عدوه )) ، غير ما في المخطوطة لأنه لم يفهمه ، فأساء غاية الإساءة ، وافسد الكلام