تفسير الطبري
تفسير الآية رقم 26 من سورة النساء
القول في تأويل قوله : يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: " يريد الله ليبين لكم "، حلاله وحرامَه =" وَيهديكم سُنن الذين من قبلكم "، يقول: وليسددكم (101) =" سُنن الذين من قبلكم "، يعني: سُبل من قبلكم من أهل الإيمان بالله وأنبيائه، ومناهجهم فيما حرّم عليكم من نكاح الأمهات والبنات والأخوات وسائر ما حرم عليكم في الآيتين اللتين بَيَّن فيهما ما حرّم من النساء (102) =" ويتوب عليكم "، يقول: يريد الله أن يرجع بكم إلى طاعته في ذلك، مما كنتم عليه من معصيته في فعلكم ذلك قبلَ الإسلام، وقبل أن يوحي ما أوحىَ إلى نبيه من ذلك =" عليكم "، ليتجاوز لكم بتوبتكم عما سلف منكم من قبيح ذلك قبل إنابتكم وتوبتكم =" والله عليم "، يقول: والله ذو علم بما يصلح عباده في أدْيانهم ودنياهم وغير ذلك من أمورهم، وبما يأتون ويذَرون مما أحل أو حرم عليهم، حافظ ذلك كله عليهم =" حكيم " بتدبيره فيهم، في تصريفهم فيما صرّفهم فيه. (103)
* * *
واختلف أهل العربية في معنى قوله: " يريد الله ليبين لكم ".
فقال بعضهم: معنى ذلك: يريد الله هذا من أجل أن يبين لكم. وقال: ذلك كما قال: وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ [سورة الشورى: 15] بكسر " اللام "، لأن معناه: أمرت بهذا من أجل ذلك.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: يريد الله أنْ يُبين لكم ويهديكم سُنن الذين من قبلكم. وقالوا: من شأن العرب التعقيبُ بين " كي" و " لام كي" و " أن "، ووضْعُ كل واحدة منهن موضع كلِّ واحدة من أختها معَ" أردت " و " أمرت ". فيقولون: " أمرتكَ أن تذهب، ولتذهب "، و " أردت أن تذهب ولتذهب "، كما قال الله جل ثناؤه: وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الأنعام: 71]، وقال في موضع آخر: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ [سورة الأنعام: 14]، (104) وكما قال: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ [سورة الصف: 8]، ثم قال في موضع آخر، يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا [سورة التوبة: 32]. واعتلوا في توجيههم " أن " مع " أمرت " و " أردت " إلى معنى " كي"، وتوجيه " كي" مع ذلك إلى معنى " أن "، لطلب " أردت " و " أمرت " الاستقبال، وأنها لا يصلح معها الماضي، (105) لا يقال: " أمرتك أن قمت "، ولا " أردت أن قمت ". قالوا: فلما كانت " أن " قد تكون مع الماضي في غير " أردت " و " أمرت "، وَكَّدُوا لها معنى الاستقبال بما لا يكون معه ماض من الأفعال بحال، (106) من " كي" و " اللام " التي في معنى " كي". قالوا: وكذلك جمعت العرب بينهن أحيانًا في الحرف الواحد، فقال قائلهم في الجمع: (107)
أَرَدْتَ لِكَيْمَــا أَنْ تَطِــيرَ بِقِــرْبَتِي
فَتَتْرُكَهَــا شَــنًّا بِبَيْــدَاءَ بَلَقْــعِ (108)
فجمع بينهن، لاتفاق معانيهن واختلاف ألفاظهن، كما قال الآخر: (109)
قَـدْ يَكْسِـبُ المَـالَ الهِـدَانُ الجَـافِي
بِغَــيْرِ لا عَصْــفٍ وَلا اصْطِـرَافِ (110)
فجمع بين " غير " و " لا "، توكيدًا للنفي. قالوا: إنما يجوز أن يجعل " أن " مكان " كي"، و " كي" مكان " أن "، في الأماكن التي لا يَصْحب جالبَ ذلك ماض من الأفعال أو غير المستقبل. فأما ما صحبه ماض من الأفعال وغير المستقبل، فلا يجوز ذلك. لا يجوز عندهم أن يقال: " طننت ليقوم "، ولا " أظن ليقوم "، بمعنى: أظن أن يقوم = لأنّ [" أنْ"]، (111) التي تدخل مع الظن تكون مع الماضي من الفعل، يقال: " أظن أن قد قام زيد "، ومع المستقبل، ومع الأسماء. (112)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي، قولُ من قال: إن " اللام " في قوله: " يريد الله ليبين لكم "، بمعنى: يريد الله أنْ يبين لكم، لما ذكرتُ من علة من قال إنّ ذلك كذلك.
* * *
---------------
(101) انظر تفسير"الهدى" فيما سلف من فهارس اللغة.
(102) انظر تفسير"السنة" فيما سلف 7: 230 ، 231 ، وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 124.
(103) انظر تفسير سائر ألفاظ الآية فيما سلف ، في فهارس اللغة.
(104) في المخطوطة والمطبوعة: "وأمرت أن أكون" ، وهو سهو من الناسخ ، وأثبت نص التلاوة.
(105) في المطبوعة: "وأيهما" ، وهي في المخطوطة غير منقوطة ، وكأنها خطأ مطبعي.
(106) في المطبوعة: "ذكروا لها معنى الاستقبال..." ، وهو كلام لا معنى له ، صوابه ما أثبته من المخطوطة ، والظاهر أن الناشر استنكر عبارة أبي جعفر فغيرها. وعبارة الفراء في معاني القرآن: "استوثقوا لمعنى الاستقبال".
(107) لا يعرف قائله.
(108) معاني القرآن للفراء 1: 262 ، الإنصاف: 242 ، الخزانة 3: 585 ، والعيني (هامش الخزانة) 4: 405 ، وغيرها ، كما قال صاحب الخزانة: "وهذا بيت قلما خلا منه كتاب نحوي".
"الشن": الخلق البالي: و"البيداء": المفازة المهلكة ، و"البلقع": الأرض القفر التي لا شيء بها. يقول: إنما أردت بذلك هلاكي وضياعي في قفرة مهلكة.
(109) ينسب إلى العجاج ، وإلى رؤبة ، وليس في ديوانه ، وانظر التعليق التالي.
(110) ديوان العجاج: 40 ، 82 ، معاني القرآن للفراء 1: 262 ، الإنصاف: 242. واللسان (صرف) (عصف) (هدن) ، والبيت التالي ، هو الوارد في شعر العجاج:
قَــالَ الَّـذِي جَـمَّعْتَ لِـي صَـوَافِي
مِـنْ غَـيْرِ لا عَصْـفٍ وَلا اصْطِرَافِ
وهو من قصيدة يعاتب فيها ولده رؤبة ، فرد عليه ولده رؤبة بقصيدة في ديوانه: 99. فظاهر أن هذا هو سبب الخلط في نسبة هذا الشعر ، والصواب أنه للعجاج ، لأنه من معنى عتابه ولده حين كبر وأرعش ، وظن أن ابنه طمع في ماله ورجا هلاكه ، وختم قصيدته بقوله:
لَيْسَ كَـــذَاكُمْ وَلَـــدُ الأَشْــرَافِ
أَعْجَــلَنِي المَــوْتَ وَلَــمْ يُكًـافِ
سَـــوْفَ يُجَــازيك مَلِيـــكٌ وَافِ
بِــالأَخْذِ إنْ جَــازَاكَ، أَوْ يُعــافِي
و"الهدان": الجبان ، أو الوخم الثقيل النوام الذي لا يبكر في حاجة. و"عصف يعصف" و"اعتصف": طلب وكسب واحتال. و"العصف": الكسب والاحتيال. و"صرفت الرجل في أمري ، فتصرف واصطرف": أي احتال في طلب الكسب.
(111) الزيادة بين القوسين لا بد منها ، استظهرتها من السياق ، ومن معاني القرآن للفراء.
(112) ومثالهما عند الفراء 1: 263 ما نصه"ومع المستقبل ، فتقول: أظن أن سيقوم زيد = ومع الأسماء فتقول: أظن أنك قائم"
وهذا الذي مضى هو مختصر مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 261-263.