تفسير الطبري
تفسير الآية رقم 37 من سورة النور
وقوله: ( رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ) يقول تعالى ذكره: لا يشغل هؤلاء الرجال الذين يصلون في هذه المساجد، التي أذن الله أن ترفع، عن ذكر الله فيها وإقام الصلاة - تجارة ولا بيع.
كما حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن سعيد بن أبي الحسن، عن رجل نسي اسمه في هذه الآية: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ) ... إلى قوله: ( وَالأبْصَارُ ) قال: هم قوم في تجاراتهم وبيوعهم؛ لا تلهيهم تجاراتهم، ولا بيوعهم عن ذكر الله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا جعفر بن سليمان، عن عمرو بن دينار، عن سالم بن عبد الله أنه نظر إلى قوم من السوق، قاموا وتركوا بياعاتهم إلى الصلاة، فقال: هؤلاء الذين ذكر الله في كتابه ( لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ) ... الآية.
قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، عن سيار، عمن حدثه، عن ابن مسعود، نحو ذلك.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن سيار، قال: حُدثت عن ابن مسعود أنه رأى قوما من أهل السوق حيث نودي بالصلاة، تركوا بياعاتهم، ونهضوا إلى الصلاة، فقال عبد الله: هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه (لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ).
وقال بعضهم: معنى ذلك: ( لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ ) عن صلاتهم المفروضة عليهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني علي، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قال: ثم قال: ( رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ) يقول: عن الصلاة المكتوبة.
قوله: ( وَإِقَامِ الصَّلاةِ ) يقول: ولا يشغلهم ذلك أيضا عن إقام الصلاة بحدودها في أوقاتها.
وبنحو قولنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا محمد، قال: ثنا عوف، عن سعيد بن أبي الحسن، عن رجل نسي عوف اسمه في ( وَإِقَامِ الصَّلاةِ ) قال: يقومون للصلاة عند مواقيت الصلاة.
فإن قال قائل: أوليس قوله: ( وَإِقَامِ الصَّلاةِ ) مصدرا من قوله: أقمت؟ قيل: بلى.فإن قال: أوليس المصدر منه إقامة، كالمصدر من آجرت إجارة؟ قيل: بلى. فإن قال: وكيف قال: ( وَإِقَامِ الصَّلاةِ ) أو تجيز أن نقول: أقمت إقاما؟ قيل: ولكني أجيز أعجبني إقام الصلاة. فإن قيل: وما وجه جواز ذلك؟ قيل: إن الحكم في أقمت إذا جعل منه مصدر أن يقال: إقواما، كما يقال: أقعدت فلانا إقعادا، وأعطيته إعطاء. ولكن العرب لما سكنت الواو من أقمت فسقطت لاجتماعها، وهي ساكنة، والميم وهي ساكنة، بنوا المصدر على ذلك، إذ جاءت الواو ساكنة قبل ألف الإفعال وهي ساكنة، فسقطت الأولى منهما، فأبدلوا منها هاء في آخر الحرف كالتكثير للحرف، كما فعلوا ذلك في قولهم: وعدته عدة، ووزنته زنة، إذ ذهبت الواو من أوّله، كثروه من آخره بالهاء; فلما أضيفت الإقامة إلى الصلاة، حذفوا الزيادة التي كانوا زادوها للتكثير وهي الهاء في آخرها؛ لأن الخافض وما خفض عندهم كالحرف الواحد، فاستغنوا بالمضاف إليه من الحرف الزائد، وقد قال بعضهم في نظير ذلك:
إنَّ الخَـلِيطَ أجَـدُّوا البَيْـنَ فـانجَرَدُوا
وأخْـلَفُوكَ عـدَى الأمْـرِ الَّذِي وَعَدُوا (3)
يريد: عدة الأمر. فأسقط الهاء من العدة لما أضافها، فكذلك ذلك في إقام الصلاة.
وقوله ( وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ) قيل: معناه وإخلاص الطاعة لله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ ، وقوله: وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ ، وقوله: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا ، وقوله: وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً ونحو هذا في القرآن، قال: يعني بالزكاة: طاعة الله والإخلاص، وقوله: ( يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ ) يقول: يخافون يوما تتقلب فيه القلوب من هوله بين طمع بالنجاة، وحذر بالهلاك، والأبصار: أي ناحية يؤخذ بهم، أذات اليمين أم ذات الشمال، ومن أين يؤتون كتبهم، أمن قبل الأيمان، أو من قبل الشمائل؟ وذلك يوم القيامة.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الله بن عياش، قال زيد بن أسلم في قول الله: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) ... إلى قوله: ( تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ ) : يوم القيامة.
------------------------
الهوامش:
(3) البيت للفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب وهو في ( اللسان : وعد ) قال : وقال الفراء : وعدت عدة ، ويحذفون الهاء إذا أضافوا وأنشد : " إن الخليط .. . " البيت . وقال ابن الأنباري وغيره : الفراء يقول : عدة وعدى وأنشد : " و أخلفوك عدى .. . " البيت . وقال : أراد : عدة الأمر ، فحذف الهاء عند الإضافة ، قال : ويكتب بالياء . وقال الجوهري : والعدة الوعد ، والهاء عوض من الواو . والخليط : اسم لمن يخالطك بجوار أو قرابة أو عمل أو نحوه . وأجدوا البين : أسرعوا في الفراق ، واجتهدوا فيه . وانجردوا : أسرعوا وشمروا والشاهد في البيت عند المؤلف أن الهاء في عدة ونحوها تحذف منها عند الإضافة استغناء عنها بالمضاف إليه عن الحرف الزائد .