تفسير الطبري
تفسير الآية رقم 58 من سورة الأنبياء
وقوله ( فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلا كَبِيرًا لَهُمْ ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الأمصار سوى يحيى بن وثاب والأعمش والكسائي ( فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا ) (1) بمعنى جمع جذيذ، كأنهم أرادوا به جمع جذيذ وجذاذ، كما يجمع الخفيف خفاف، والكريم كرام.
وأولى القراءتين في ذلك عندنا بالصواب قراءة من قرأه (جُذَاذا) بضمّ الجيم، لإجماع قرّاء الأمصار عليه، وأن ما أجمعت عليه فهو الصواب، وهو إذا قرئ كذلك مصدر مثل الرُّفات، والفُتات، والدُّقاق لا واحد له، وأما من كسر الجيم فإنه جمع للجذيذ، والجذيذ: هو فعيل صُرِف من مجذوذ إليه، مثل كسير وهشيم، والمجذوذة: المكسورة قِطَعا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا ) يقول: حُطاما.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (جُذَاذًا) كالصَّريم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة، قوله ( فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا ) : أي قطعا.
وكان سبب فعل إبراهيم صلوات الله عليه بآلهة قومه ذلك، كما حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط عن السديّ أن إبراهيم قال له أبوه: يا إبراهيم إن لنا عيدا لو قد خرجت معنا إليه قد أعجبك ديننا، فلما كان يوم العيد، فخرجوا إليه، خرج معهم إبراهيم، فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال: إني سقيم، يقول: أشتكي رجلي فتواطئوا رجليه وهو صريع؛ فلما مضوا نادى في آخرهم، وقد بقي ضَعْفَى الناس ( وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ) فسمعوها منه، ثم رجع إبراهيم إلى بيت الآلهة، فإذا هنّ في بهو عظيم، مستقبل باب البهو صنم عظيم إلى جنبه أصغر منه بعضها إلى بعض، كل صنم يليه أصغر منه، حتى بلغوا باب البهو، وإذا هم قد جعلوا طعاما، فوضعوه بين أيدي الآلهة، قالوا: إذا كان حين نرجع رجعنا، وقد باركت الآلهة في طعامنا فأكلنا، فلما نظر إليهم إبراهيم، وإلى ما بين أيديهم من الطعام قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ فلما لم تجبه، قال مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ فأخذ فأس حديد، فنقر كلّ صنم في حافتيه، ثم علَّق الفأس في عنق الصنم الأكبر، ثم خرج، فلما جاء القوم إلى طعامهم نظروا إلى آلهتهم قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ .
وقوله ( إِلا كَبِيرًا لَهُمْ ) يقول: إلا عظيما للآلهة، فإن إبراهيم لم يكسره، ولكنه فيما ذكر علق الفأس في عنقه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج ( إِلا كَبِيرًا لَهُمْ ) قال: قال ابن عباس، إلا عظيما لهم عظيم آلهتهم، قال ابن جُرَيْج، وقال مجاهد: وجعل إبراهيم الفأس التي أهلك بها أصنامهم مُسْندة إلى صدر كبيرهم الذي تَرَك.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: جعل إبراهيم الفأس التي أهلك بها أصنامهم مسندة إلى صدر كبيرهم الذي ترك.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: أقبل عليهنّ كما قال الله تبارك وتعالى ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ثم جعل يكسرهنّ بفأس في يده، حتى إذا بقي أعظم صنم منها ربط الفأس بيده، ثم تركهنّ، فلما رجع قومه، رأوا ما صنع بأصنامهم، فراعهم ذلك وأعظموه وقالوا: من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين، وقوله ( لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ) يقول: فعل ذلك إبراهيم بآلهتهم ليعتبروا ويعلموا أنها إذا لم تدفع عن نفسها ما فعل بها إبراهيم، فهي من أن تدفع عن غيرها من أرادها بسوء أبعد، فيرجعوا عما هم عليه مقيمون من عبادتها إلى ما هو عليه من دينه وتوحيد الله، والبراءة من الأوثان.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة ( لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ) قال: كادهم بذلك لعلهم يتذكرون أو يبصرون.
------------------------
الهوامش :
(1) في العبارة هنا قصور ، ولعل بها سقطا ، وسيوضحها المؤلف في كلامه الآتي بعدها . والحاصل أن قراءة عامة القراء " جذاذا " بضم الجيم ، قيل هو مفرد كحطام ، وقيل من الجمع العزيز . وقرأ ابن وثاب وجماعة بالكسر ، وهو جذيذ ، ونظيره كريم وكرام .