تفسير الطبري
تفسير الآية رقم 216 من سورة البقرة
القول في تأويل قوله عز ذكره : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه بقوله : " كتب عليكم القتال "، فُرض عليكم القتال، يعني قتال المشركين= وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ .
* * *
واختلف أهل العلم في الذين عُنوا بفرض القتال.
فقال بعضهم: عني بذلك أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصةً دون غيرهم.
* ذكر من قال ذلك:
4072 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء قلت له: " كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ" ، أواجبٌ الغزوُ على الناس من أجلها ؟ قال: لا! كُتب على أولئك حينئذ.
4073 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا خالد، عن حسين بن قيس، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: " كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ"، قال نسختها وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [سورة البقرة: 285]
* * *
قال أبو جعفر: وهذا قول لا معنى له، لأن نسخَ الأحكام من قبل الله جل وعزّ، لا من قبل العباد، وقوله: وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ، خبر من الله عن عباده المؤمنين وأنهم قالوه لا نسخٌ منه.
4074 - حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثنا معاوية بن عمرو، قال: حدثنا أبو إسحاق الفزاري، قال: سألت الأوزاعي عن قول الله عز وجل: " كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ، أواجبٌ الغزو على الناس كلهم ؟ قال: لا أعلمه، ولكن لا ينبغي للأئمة والعامة تركه، فأما الرجل في خاصة نفسه فلا. (1)
* * *
وقال آخرون: هو على كل واحد حتى يقوم به من في قيامه الكفاية، فيسقطُ فرض ذلك حينئذ عن باقي المسلمين، كالصلاة على الجنائز وغسلهم الموتى ودفنهم، وعلى هذا عامة علماء المسلمين .
* * *
قال أبو جعفر: وذلك هو الصواب عندنا لإجماع الحجة على ذلك، ولقول الله عز وجل: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [سورة النساء: 95]، فأخبر جل ثناؤه أنّ الفضل للمجاهدين، وأن لهم وللقاعدين الحسنى، ولو كان القاعدون مضيِّعين فرضًا لكان لهم السُّوأى لا الحسنى.
* * *
وقال آخرون: هو فرضٌ واجبٌ على المسلمين إلى قيام الساعة.
* ذكر من قال ذلك:
4075- حدثنا حُبَيش بن مبشر قال: حدثنا روح بن عبادة، عن ابن جريج، عن داود بن أبي عاصم، قال: قلت لسعيد بن المسيب: قد أعلم أن الغزو واجبٌ على الناس! فسكت، وقد أعلم أنْ لو أنكر ما قلت لبيَّن لي. (2)
* * *
وقد بينا فيما مضى معنى قوله: " كتب " بما فيه الكفاية. (3)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وهو ذو كره لكم، فترك ذكر " ذو " اكتفاء بدلالة قوله: " كره لكم "، عليه، كما قال: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [سورة يوسف: 82]
وبنحو الذي قلنا في ذلك روي عن عطاء في تأويله.
* ذكر من قال ذلك:
4076 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء في قوله: " وهو كره لكم " قال: كُرّه إليكم حينئذ.
* * *
" والكره " بالضم: هو ما حمل الرجلُ نفسه عليه من غير إكراه أحد إياه عليه،" والكَرْهُ" بفتح " الكاف "، هو ما حمله غيره، فأدخله عليه كرهًا. وممن حكي عنه هذا القول معاذ بن مسلم.
4077 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، عن معاذ بن مسلم، قال: الكُرْه المشقة، والكَرْه الإجبار.
* * *
وقد كان بعض أهل العربية يقول: " الكُره والكَره " لغتان بمعنى واحد، مثل: " الغُسْل والغَسْل " و " الضُّعف والضَّعف "، و " الرُّهبْ والرَّهبْ". وقال بعضهم: " الكره " بضم " الكاف " اسم و " الكره " بفتحها مصدر.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولا تكرهوا القتالَ، فإنكم لعلكم أن تكرهوه وهو خيرٌ لكم، ولا تحبوا تركَ الجهاد، فلعلكم أن تحبوه وهو شر لكم، كما:-
4078 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: " كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم "، وذلك لأن المسلمين كانوا يكرهون القتال، فقال: " عسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم " يقول: إن لكم في القتال الغنيمةَ والظهور والشهادة، ولكم في القعود أن لا تظهروا على المشركين، ولا تُستْشهدوا، ولا تصيبوا شيئًا.
4079 - حدثني محمد بن إبراهيم السلمي، قال: حدثني يحيى بن محمد بن مجاهد، قال: أخبرني عبيد الله بن أبي هاشم الجعفي، قال: أخبرني عامر بن واثلة قال: قال ابن عباس: كنت رِدْفَ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا ابن عباس ارضَ عن الله بما قدَّرَ، وإن كان خلافَ هواك، فإنه مثبَتٌ في كتاب الله. قلت: يا رسول الله، فأين؟ وقد قرأت القرآن ! قال: في قوله: " وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون " (4)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216)
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: والله يعلم ما هو خيرٌ لكم، مما هو شر لكم، فلا تكرهوا ما كتبتُ عليكم من جهاد عدوكم، وقتال من أمرتكم بقتاله، فإني أعلم أنّ قتالكم إياهم، هو خيرٌ لكم في عاجلكم ومعادكم، وترككم قتالهم شر لكم، وأنتم لا تعلمون من ذلك ما أعلم، يحضّهم جل ذكره بذلك على جهاد أعدائه، ويرغِّبهم في قتال من كفر به.
-----------------
(1) الأثر : 4074 - محمد بن إسحاق بن جعفر الصاغاني نزل بغداد وكان وجه مشايخ بغداد وكان أحد الحفاظ الأثبات المتقنين مات سنة 270 ، وروى عنه الطبري في المذيل (انظر المنتخب من ذيل المذيل : 104) ومعاوية بن عمرو بن المهلب الأزدي روى عنه البخاري ، توفي ببغداد سنة 215 . وكلاهما مترجم في التهذيب .
(2) الأثر : 4075 - حبيش بن مبشر بن أحمد الطوسي الفقيه ، كان ثقة من عقلاء البغداديين مات سنة 258 ، مترجم في التهذيب وتاريخ بغداد . وكان في المطبوعة : "حسين بن ميسر" وليس في الرواة من يعرف بذلك .
(3) انظر ما سلف 3 : 357 ، 364 ، 365 .
(4) الحديث : 4079 - هذا إسناد مظلم والمتن منكر! لم أجد ترجمة"يحيى بن محمد بن مجاهد" ولا"عبيد الله بن أبي هاشم" ولا أدري ما هما . ولفظ الحديث لم أجده ، ولا نقله أحد +من ينقل عن الطبري .