تفسير الطبري
تفسير الآية رقم 64 من سورة الإسراء
يعني تعالى ذكره بقوله (وَاسْتَفْزِزْ) واستخفف واستجهل، من قولهم: استفزّ فلانا كذا وكذا فهو يستفزّه ( مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ).
اختلف أهل التأويل في الصوت الذي عناه جلّ ثناؤه بقوله ( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ) فقال بعضهم: عنى به: صوت الغناء واللعب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد، في قوله ( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ) قال: باللهو والغناء.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثا يذكر، عن مجاهد، في قوله: ( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ) قال: اللعب واللهو.
وقال آخرون: عنى به ( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ ) بدعائك إياه إلى طاعتك ومعصية الله.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس ( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ) قال: صوته كلّ داع دعا إلى معصية الله.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ) قال: بدعائك.
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال: إن الله تبارك وتعالى قال لإبليس: واستفزز من ذرّية آدم من استطعت أن تستفزّه بصوتك، ولم يخصص من ذلك صوتا دون صوت، فكل صوت كان دعاء إليه وإلى عمله وطاعته، وخلافا للدعاء إلى طاعة الله، فهو داخل في معنى صوته الذي قال الله تبارك وتعالى اسمه له ( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ).
وقوله ( وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ) يقول: وأجمع عليهم من ركبان جندك ومشاتهم من يجلب عليها بالدعاء إلى طاعتك، والصرف عن طاعتي، يقال منه: أجلب فلان على فلان إجلابا: إذا صاح عليه. والجَلَبة: الصوت، وربما قيل: ما هذا الجَلَب، كما يقال: الغَلَب، والشَّفَقَة والشَّفَق.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني سلم بن جنادة، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثا يذكر عن مجاهد، في قوله ( وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ) قال: كلّ راكب وماش في معاصي الله تعالى.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ) قال: إن له خيلا ورجلا من الجن والإنس، وهم الذين يطيعونه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ) قال الرجال: المشاة.
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ) قال: خيله: كل راكب في معصية الله؛ ورجله: كل راجل في معصية الله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، في قوله ( وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ) قال: ما كان من راكب يقاتل في معصية الله فهو من خيل إبليس، وما كان من راجل في معصية الله فهو من رجال إبليس، والرجْل: جمع راجل، كما التجْر: جمع تاجر، والصَّحْب: جمع صاحب.
وأما قوله ( وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ ) في الأموال والأولاد فإن أهل التأويل اختلفوا في المشاركة التي عنيت بقوله ( وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ ) فقال بعضهم: هو أمره إياهم بإنفاق أموالهم في غير طاعة الله واكتسابهموها من غير حلها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثا يذكر عن مجاهد ( وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ ) التي أصابوها من غير حلها.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ ) قال: ما أكل من مال بغير طاعة الله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء بن أبي رَباح، قال: الشرك في أموال الربا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، في قوله ( وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ ) قال: قد والله شاركهم في أموالهم، وأعطاهم الله أموالا فأنفقوها في طاعة الشيطان في غير حقّ الله تبارك اسمه، وهو قول قتادة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد، عن معمر، قال: قال الحسن ( وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ ) مرهم أن يكسبوها من خبيث، وينفقوها في حرام.
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس ( وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ ) قال: كل مال في معصيه الله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأولادِ ) قال: مشاركته إياهم في الأموال والأولاد، ما زَيَّن لهم فيها من معاصي الله حتى ركبوها.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد ( وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ ) كلّ ما أنفقوا في غير حقه.
وقال آخرون: بل عُنِي بذلك كلّ ما كان من تحريم المشركين ما كانوا يحرّمون من الأنعام كالبحائر والسوائب ونحو ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمى، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله ( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ ) قال: الأموال: ما كانوا يحرِّمون من أنعامهم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا عيسى، عن عمران بن سليمان. عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: مشاركته في الأموال أن جعلوا البحيرة والسائبة والوصيلة لغير الله.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ ) فإنه قد فعل ذلك، أما في الأموال، فأمرهم أن يجعلوا بحيرة وسائبة ووصيلة وحاما.
قال أبو جعفر: الصواب: حاميا.
وقال آخرون: بل عُنِي به ما كان المشركون يذبحونه لآلهتهم.
* ذكر من قال ذلك: حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول: ( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ ) يعني ما كانوا يذبحون لآلهتهم.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عُنِي بذلك كلّ مال عصى الله فيه بإنفاق في حرام أو اكتساب من حرام، أو ذبح للآلهة، أو تسييب، أو بحر للشيطان، وغير ذلك مما كان معصيا به أو فيه، وذلك أن الله قال ( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ ) فكلّ ما أطيع الشيطان فيه من مال وعصى الله فيه، فقد شارك فاعل ذلك فيه إبليس، فلا وجه لخصوص بعض ذلك دون بعض.
وقوله (والأوْلاد) اختلف أهل التأويل في صفة شركته بني آدم في أولادهم، فقال بعضهم: شركته إياهم فيهم بزناهم بأمهاتهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمى، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ ) قال: أولاد الزنا.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثا يذكر عن مجاهد ( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ ) قال: أولاد الزنا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحرث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ ) قال: أولاد الزنا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال : ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: أولاد الزنا.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ قال: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول ( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ ) قال: أولاد الزنا، يعني بذلك أهل الشرك.
حدثنا ابن حميد، قال : ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، في قوله ( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ ) قال: الأولاد: أولاد الزنا.
وقال آخرون: عنى بذلك: وأْدُهم أولادَهم وقتلهموهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني علي، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس ( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ ) قال: ما قتلوا من أولادهم، وأتوا فيهم الحرام.
وقال آخرون: بل عنى بذلك: صبغهم إياهم في الكفر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن ( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ ) قال: قد والله شاركهم في أموالهم وأولادهم، فمجسوا وهوّدوا ونصروا وصبغوا غير صبغة الإسلام وجزءوا من أموالهم جزءا للشيطان.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ ) قال: قد فعل ذلك، أما في الأولاد فانهم هوّدوهم ونصَّروهم ومجّسوهم.
وقال آخرون: بل عنى بذلك تسميتهم أولادهم عبد الحرث وعبد شمس.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني عيسى بن يونس، عن عمران بن سليمان، عن أبي صالح عن ابن عباس ( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ ) قال: مشاركته إياهم في الأولاد، سموا عبد الحرث وعبد شمس وعبد فلان.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: كل ولد ولدته أنثى عصى الله بتسميته ما يكرهه الله، أو بإدخاله في غير الدين الذي ارتضاه الله، أو بالزنا بأمه، أو قتله ووأده، أو غير ذلك من الأمور التي يخصص بقوله ( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ ) معنى الشركة فيه بمعنى دون معنى، فكلّ ما عصى الله فيه أو به، وأطيع به الشيطان أو فيه، فهو مشاركة من عصى الله فيه أو به إبليس فيه.
وقوله ( وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا ) يقول تعالى ذكره لإبليس: وعد أتباعك من ذرّية آدم، النصرة على من أرادهم بسوء، يقول الله ( وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا ) لأنه لا يغني عنهم من عقاب الله إذا نـزل بهم شيئا، فهم من عداته في باطل وخديعة، كما قال لهم عدو الله حين حصحص الحق إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ .