تفسير الطبري
تفسير الآية رقم 50 من سورة إبراهيم
يقول تعالى ذكره: وتعاين الذين كفروا بالله ، فاجترموا في الدنيا الشرك يومئذ ، يعني: يوم تُبدّل الأرض غير الأرض والسماوات.( مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ ) يقول: مقرنة أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأصفاد ، وهي الوثاق من غلّ وسلسلة ، واحدها: صَفَد ، يقال منه: صفدته في الصَّفَد صَفْدا وصِفادا ، والصفاد: القيد ، ومنه قول عمرو بن كلثوم:
فَـــآبُوا بالنِّهـــابِ وبالسَّـــبايا
وأُبْنـــا بـــالمُلُوكِ مُصَفَّدِينـــا (19)
ومن جعل الواحد من ذلك صِفادا جمعه: صُفُدا لا أصفادا ، وأما من العطاء ، فإنه يقال منه: أصفدتُهُ إصفادا ، كما قال الأعشى:
تَضَيَّفْتُــهُ يَوْمــا فـأكْرَمَ مَجْلِسِـي
وأصْفَــدَنِي عِنْــدَ الزَّمانَـةِ قـائِدَا (20)
وقد قيل في العطاء أيضا: صَفَدَني صَفْدا ، كما قال النابغة الذبياني:
هَــذَا الثَّنــاءُ فـإنْ تَسْـمَعْ لِقَائِلِـهِ
فَمَـا عَـرَضْتُ أبَيْـتَ اللَّعْـنَ بالصَّفَدِ (21)
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله ( مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى ، قال : ثني عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله ( مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ ) يقول: في وثاق.
حدثني محمد بن عيسى الدامغاني ، قال : ثنا ابن المبارك ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : الأصفاد: السلاسل
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ ) قال: مقرّنين في القيود والأغلال.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا عليّ بن هاشم بن البريد ، قال : سمعت الأعمش ، يقول: الصفد: القيد.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله ( مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ ) قال: صفدت فيها أيديهم وأرجلهم ورقابهم ، والأصفاد: الأغلال.
وقوله ( سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ ) يقول: قمصهم التي يلبسونها ، واحدها: سربال ، كما قال امرؤ القيس:
لَعُوبٌ تُنَسِّيني إذَا قُمْتُ سرْبالي (22)
------------------------
الهوامش :
(19) البيت لعمرو بن كلثوم في معلقته . وآبوا : رجعوا . والنهاب : جمع نهب . والمصفدون : المغللون بالأصفاد ، الواحد : صفد ، وهو الغل . يقول : ظفرنا بهم ، فلم نلتفت إلى أسلابهم ، ولا أموالهم ، وعمدنا إلى ملوكهم ، فصفدناهم في الحديد . وفي ( اللسان : صفه ) : الصفاد : حبل يوثق به أو غل . وهو الصفد ، والصفد ( بتسكين الفاء وتحريكها ) . والجمع : الأصفاد . قال ابن سيده : لا نعمله كسر على غير ذلك . وفي التنزيل " مقرنين في الأصفاد " . قيل : هي الأغلال . وقيل : القيود . واحدها صفد . وانظر شرح المعلقات السبع للزوزني ، وشرح القصائد العشر للتبريزي .
(20) البيت للأعشى ( اللسان : صفد ، وديوان الأعشى طبع القاهرة ص 65 ) من قصيدة يمدح بها هوذة بن علي الحنفي ، ويذم الحارث بن وعلة بن مجالد الرقاشي . وتضيفته : نزلت عنده ضيفا ، وأصفدني : أعطاني ، من الصفد بمعنى العطية هنا . يقول : لما زرت هوذة في " جو " أكرم وفادتي عليه ، وقربني من مجلسه ، وأعطاني قائدا يقودني لما رأى من آثار الضعف والكلال وسوء البصر ، ورواية الديوان : " على " في موضع " عند " .
(21) هذا البيت للنابغة الذيباني ( مختار الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا طبعة الحلبي ص 155 ) . والصفد هنا : بمعنى العطاء كالذي قبله . وفي الشطر الثاني منه : فلم أعرض ، في مكان : فما عرضت .
(22) هذا عجز بيت لامرئ القيس بن حجر من لاميته المطولة ( 54 بيتا ) ، وصدره " ومثلك بيضاء العوارض طفلة " ( انظر مختار الشعر الجاهلي ، بشرح مصطفى السقا طبعة الحلبي ص 37 ) . وهذا البيت ساقط من نسخة الديوان بشرح الوزير أبي بكر عاصم بن أيوب البطليوسي ، وثابت في نسخة الأعلم الشنتمري ، وفيما نقله البغدادي في خزانة الأدب الكبرى من أبيات القصيدة ( ج 1 : 197 ) أورده بعد قول امرئ القيس : " وأمنع عرسي أن يزن بها الخالي " . والواو في البيت : واو رب . والخطاب لبسباسة . والعارض والعارضة صفحة الخد وصفحة العنق ، وجانب الوجه ، وما يستقبلك من الشيء ، ومن الوجه ما يبدو عن الضحك ، والطفلة ( بالفتح ) : الناعمة البدن . واللعوب : الحسنة الدل . والسربال : القميص ، يريد : تذهب بفؤادي ، حتى أنسى قميصي ، والشاهد فيه عند الطبري ، أن السربال : هو القميص عند العرب .