تفسير القرطبي
تفسير الآية رقم 101 من سورة المائدة
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم
فيه ست مسائل :
الأولى : روى البخاري ومسلم وغيرهما - واللفظ للبخاري - عن أنس قال ، قال رجل : يا نبي الله ، من أبي ؟ قال : أبوك فلان قال فنزلت يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم الآية ، وخرج أيضا عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه : فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا فقام إليه رجل فقال : أين مدخلي يا رسول الله ؟ قال : النار . فقام عبد الله بن حذافة فقال : من أبي يا رسول الله فقال : أبوك حذافة وذكر الحديث قال ابن عبد البر : عبد الله بن حذافة أسلم قديما ، وهاجر إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية ، وشهد بدرا وكانت فيه دعابة ، وكان رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم ; أرسله إلى كسرى بكتاب رسول الله صلى الله عليه سلم ; ولما قال من أبي يا رسول الله ; قال : أبوك حذافة قالت له أمه : ما سمعت بابن أعق منك آمنت أن تكون أمك قارفت ما يقارف نساء الجاهلية فتفضحها على أعين الناس ! فقال : والله لو ألحقني بعبد أسود للحقت به ، وروى الترمذي والدارقطني عن علي رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا . قالوا : يا رسول الله أفي كل عام ؟ فسكت ، فقالوا : أفي كل عام ؟ قال : لا ولو قلت نعم لوجبت ، فأنزل الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم إلى آخر الآية . واللفظ للدارقطني سئل البخاري عن هذا الحديث فقال : هو حديث حسن إلا أنه مرسل ; أبو البختري لم يدرك عليا ، واسمه سعيد ، وأخرجه الدارقطني أيضا عن أبي عياض عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أيها الناس كتب عليكم الحج فقام رجل فقال : في كل عام يا رسول الله ؟ فأعرض عنه ، ثم عاد فقال : في كل عام يا رسول الله ؟ فقال : ومن القائل ؟ قالوا : فلان ; قال : والذي نفسي بيده لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما أطقتموها ولو لم تطيقوها لكفرتم فأنزل الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم الآية ، وقال الحسن البصري في هذه الآية : سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أمور الجاهلية التي عفا الله عنها ولا وجه للسؤال عما عفا الله عنه ، وروى مجاهد عن ابن عباس أنها نزلت في قوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ; وهو قول سعيد بن جبير ; وقال : ألا ترى أن بعده : ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام .
قلت : وفي الصحيح والمسند كفاية . ويحتمل أن تكون الآية نزلت جوابا للجميع ، فيكون السؤال قريبا بعضه من بعض ، والله أعلم . و ( أشياء ) وزنه أفعال ; ولم يصرف لأنه مشبه بحمراء ; قاله الكسائي وقيل : وزنه أفعلاء ; كقولك : هين وأهوناء ; عن الفراء والأخفش ويصغر فيقال : أشياء ; قال المازني : يجب أن يصغر شييآت كما يصغر أصدقاء ; في المؤنث صديقات وفي المذكر صديقون .
الثانية : قال ابن عون : سألت نافعا عن قوله تعالى لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم فقال : لم تزل المسائل منذ قط تكره . روى مسلم عن المغيرة بن شعبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنعا وهات وكره لكم ثلاثا : قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال . قال كثير من العلماء : المراد بقوله ( وكثرة السؤال ) التكثير من السؤال في المسائل الفقهية تنطعا ، وتكلفا فيما لم ينزل ، والأغلوطات وتشقيق المولدات ، وقد كان السلف يكرهون ذلك ويرونه من التكليف ، ويقولون : إذا نزلت النازلة وفق المسئول لها . قال مالك : أدركت أهل هذا البلد وما عندهم علم غير الكتاب والسنة ، فإذا نزلت نازلة جمع الأمير لها من حضر من العلماء فما اتفقوا عليه أنفذه ، وأنتم تكثرون المسائل وقد كرهها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقيل : المراد بكثرة المسائل كثرة سؤال الناس الأموال والحوائج إلحاحا واستكثارا ; وقاله أيضا مالك وقيل : المراد بكثرة المسائل السؤال عما لا يعني من أحوال الناس بحيث يؤدي ذلك إلى كشف عوراتهم والاطلاع على مساوئهم . وهذا مثل قوله تعالى : ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا قال ابن خويز منداد : ولذلك قال بعض أصحابنا متى قدم إليه طعام لم يسأل عنه من أين هذا أو عرض عليه شيء يشتريه لم يسأل من أين هو وحمل أمور المسلمين على السلامة والصحة .
قلت : والوجه حمل الحديث على عمومه فيتناول جميع تلك الوجوه كلها ، والله أعلم .
الثالثة : قال ابن العربي : اعتقد قوم من الغافلين تحريم أسئلة النوازل حتى تقع تعلقا بهذه الآية ; وليس كذلك لأن هذه الآية مصرحة بأن السؤال المنهي عنه إنما كان فيما تقع المساءة في جوابه ولا مساءة في جواب نوازل الوقت فافترقا .
قلت : قوله : اعتقد قوم من الغافلين فيه قبح ، وإنما كان الأولى به أن يقول : ذهب قوم إلى تحريم أسئلة النوازل ، لكنه جرى على عادته ، وإنما قلنا كان أولى به ; لأنه قد كان قوم من السلف يكرهها ، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يلعن من سأل عما لم يكن ; ذكره الدارمي في مسنده ; وذكر عن الزهري قال : بلغنا أن زيد بن ثابت الأنصاري كان يقول إذا سئل عن الأمر : أكان هذا ؟ فإن قالوا : نعم قد كان حدث فيه بالذي يعلم ، وإن قالوا : لم يكن قال فذروه حتى يكون ، وأسند عن عمار بن ياسر وقد سئل عن مسألة فقال : هل كان هذا بعد ؟ قالوا : لا ; قال : دعونا حتى يكون ، فإذا كان تجشمناها لكم . قال الدارمي : حدثنا عبد الله بن محمد بن أبي شيبة ، قال حدثنا ابن فضيل عن عطاء عن ابن عباس قال : ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض ، كلهن في القرآن ; منهن يسألونك عن الشهر الحرام ، ويسألونك عن المحيض وشبهه ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم .
الرابعة : قال ابن عبد البر : السؤال اليوم لا يخاف منه أن ينزل تحريم ولا تحليل من أجله ، فمن سأل مستفهما راغبا في العلم ونفي الجهل عن نفسه ، باحثا عن معنى يجب الوقوف في الديانة عليه ، فلا بأس به ، فشفاء العي السؤال ; ومن سأل متعنتا غير متفقه ولا متعلم فهو الذي لا يحل قليل سؤاله ولا كثيره ; قال ابن العربي : الذي ينبغي للعالم أن يشتغل به هو بسط الأدلة ، وإيضاح سبل النظر ، وتحصيل مقدمات الاجتهاد ، وإعداد الآلة المعينة على الاستمداد ; فإذا عرضت نازلة أتيت من بابها ، ونشدت في مظانها ، والله يفتح في صوابها .
الخامسة : قوله تعالى : وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم فيه غموض ، وذلك أن في أول الآية النهي عن السؤال ، ثم قال : وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم فأباحه لهم ; فقيل : المعنى وإن تسألوا عن غيرها فيما مست الحاجة إليه ، فحذف المضاف ، ولا يصح حمله على غير الحذف . قال الجرجاني : الكناية في عنها ترجع إلى أشياء أخر ; كقوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين يعني آدم ، ثم قال : ثم جعلناه نطفة أي ابن آدم ; لأن آدم لم يجعل نطفة في قرار مكين ، لكن لما ذكر الإنسان وهو آدم دل على إنسان مثله ، وعرف ذلك بقرينة الحال ; فالمعنى وإن تسألوا عن أشياء حين ينزل القرآن من تحليل أو تحريم أو حكم ، أو مست حاجتكم إلى التفسير ، فإذا سألتم فحينئذ تبد لكم ; فقد أباح هذا النوع من السؤال : ومثاله أنه بين عدة المطلقة والمتوفى عنها زوجها والحامل ، ولم يجر ذكر عدة التي ليست بذات قرء ولا حامل ، فسألوا عنها فنزل واللائي يئسن من المحيض . فالنهي إذا في شيء لم يكن بهم حاجة إلى السؤال فيه ; فأما ما مست الحاجة إليه فلا .
السادسة : قوله تعالى : عفا الله عنها أي : عن المسألة التي سلفت منهم ، وقيل : عن الأشياء التي سألوا عنها من أمور الجاهلية وما جرى مجراها ، وقيل : العفو بمعنى الترك ; أي : تركها ولم يعرف بها في حلال ولا حرام فهو معفو عنها فلا تبحثوا عنه فلعله إن ظهر لكم حكمه ساءكم ، وكان عبيد بن عمير يقول : إن الله أحل وحرم ، فما أحل فاستحلوه ، وما حرم فاجتنبوه ، وترك بين ذلك أشياء لم يحللها ولم يحرمها ، فذلك عفو من الله ، ثم يتلو هذه الآية . وخرج الدارقطني عن أبي ثعلبة الخشني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها وحرم حرمات فلا تنتهكوها وحدد حدودا فلا تعتدوها وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها والكلام على هذا التقدير فيه تقديم وتأخير ; أي : لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها إن تبد لكم تسؤكم ، أي : أمسك عن ذكرها فلم يوجب فيها حكما ، وقيل : ليس فيه تقديم ولا تأخير ; بل المعنى قد عفا الله عن مسألتكم التي سلفت وإن كرهها النبي صلى الله عليه وسلم ، فلا تعودوا لأمثالها . فقوله : عنها أي : عن المسألة ، أو عن السؤالات كما ذكرناه .