تفسير القرطبي
تفسير الآية رقم 3 من سورة العنكبوت
قوله تعالى : ولقد فتنا الذين من قبلهم أي ابتلينا الماضين كالخليل ألقي في النار وكقوم نشروا بالمناشير في دين الله فلم يرجعوا عنه . وروى البخاري عن خباب بن الأرت قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا له : ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو لنا فقال : قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد لحمه وعظمه فما يصرفه ذلك عن دينه ، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون . وخرج ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري قال : دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك فوضعت يدي عليه فوجدت حره بين يدي فوق اللحاف فقلت : يا رسول الله ما أشدها عليك ، قال : إنا كذلك يضعف لنا البلاء ويضعف لنا الأجر . قلت : يا رسول الله أي الناس أشد بلاء ؟ قال : الأنبياء . وقلت : ثم من ، قال : ثم الصالحون ، إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يحوبها وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء وروى سعد بن أبي وقاص قال : قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء ؟ قال الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه من خطيئة وروى عبد الرحمن بن زيد أن عيسى عليه السلام كان له وزير ، فركب يوما فأخذه السبع فأكله ، فقال عيسى : يا رب وزيري في دينك وعوني على بني إسرائيل وخليفتي فيهم سلطت عليه كلبا فأكله . قال : نعم كانت له عندي منزلة رفيعة لم أجد عمله يبلغها فابتليته بذلك لأبلغه تلك المنزلة وقال وهب : قرأت في كتاب رجل من الحواريين : إذا سلك بك سبيل البلاء فقر عينا فإنه سلك بك سبيل الأنبياء والصالحين وإذا سلك بك سبيل الرخاء فابك على نفسك فقد خولف بك عن سبيلهم .
قوله تعالى : فليعلمن الله الذين صدقوا أي فليرين الله الذين صدقوا في إيمانهم وقد مضى هذا المعنى في ( البقرة ) وغيرها قال الزجاج : ليعلم صدق الصادق بوقوع صدقه منه . وقد علم الصادق من الكاذب قبل أن يخلقهما ولكن القصد قصد وقوع العلم بما يجازي عليه وإنما يعلم صدق الصادق واقعا كائنا وقوعه وقد علم أنه سيقع . وقال النحاس : فيه قولان : أحدهما : أن يكون ( صدقوا ) مشتقا من الصدق و ( الكاذبين ) مشتقا من الكذب الذي هو ضد الصدق ويكون المعنى ; فليبينن الله الذين صدقوا فقالوا نحن مؤمنون واعتقدوا مثل ذلك ، والذين كذبوا حين اعتقدوا غير ذلك . والقول الآخر أن يكون ( صدقوا ) مشتقا من الصدق وهي الصلب و ( الكاذبين ) مشتقا من ( كذب ) : إذا انهزم . فيكون المعنى ; فليعلمن الله الذين ثبتوا في الحرب والذين انهزموا ; كما قال الشاعر [ زهير بن أبي سلمى ] :
ليث بعثر يصطاد الرجال إذا ما الليث كذب عن أقرانه صدقا
فجعل ( ليعلمن ) في موضع ( فليبينن ) مجازا . وقراءة الجماعة : ( فليعلمن ) بفتح الياء واللام وقرأ علي بن أبي طالب بضم الياء وكسر اللام وهي تبين معنى ما قاله النحاس ويحتمل ثلاثة معان : الأول : أن يعلم في الآخرة هؤلاء الصادقين والكاذبين بمنازلهم من ثوابه وعقابه وبأعمالهم في الدنيا ; بمعنى يوقفهم على ما كان منهم . الثاني : أن يكون المفعول الأول محذوفا تقديره ; فليعلمن الناس والعالم هؤلاء الصادقين والكاذبين أي يفضحهم ويشهرهم ; هؤلاء في الخير وهؤلاء في الشر وذلك في الدنيا والآخرة . الثالث : أن يكون ذلك من العلامة ; أي يضع لكل طائفة علامة يشتهر بها ، فالآية على هذا تنظر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم : من أسر سريرة ألبسه الله رداءها .