تفسير القرطبي

تفسير الآية رقم 4 من سورة النور

قوله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون
فيه عشرون مسألة :
الأولى : هذه الآية نزلت في القاذفين . قال سعيد بن جبير : كان سببها ما قيل في عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - . وقيل : بل نزلت بسبب القذفة عاما لا في تلك النازلة . وقال ابن المنذر : لم نجد في أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبرا يدل على تصريح القذف ، وظاهر كتاب الله تعالى مستغنى به دالا على القذف الذي يوجب الحد ، وأهل العلم على ذلك مجمعون .
الثانية : قوله تعالى : والذين يرمون يريد يسبون ، واستعير له اسم الرمي لأنه إذاية بالقول كما قال النابغة :
وجرح اللسان كجرح اليد
وقال آخر :
رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئا ومن أجل الطوي رماني
ويسمى قذفا ؛ ومنه الحديث : إن ابن أمية قذف امرأته بشريك بن السحماء ؛ أي رماها .
الثالثة : ذكر الله تعالى في الآية النساء من حيث هن أهم ، ورميهن بالفاحشة أشنع وأنكى للنفوس . وقذف الرجال داخل في حكم الآية بالمعنى ، وإجماع الأمة على ذلك . وهذا نحو نصه على تحريم لحم الخنزير ودخل شحمه وغضاريفه ، ونحو ذلك بالمعنى والإجماع . وحكى الزهراوي أن المعنى : والأنفس المحصنات ؛ فهي بلفظها تعم الرجال والنساء ، ويدل على ذلك قوله : والمحصنات من النساء . . وقال قوم : أراد بالمحصنات الفروج ؛ كما قال تعالى : والتي أحصنت فرجها فيدخل فيه فروج الرجال والنساء . وقيل : إنما ذكر المرأة الأجنبية إذا قذفت ليعطف عليها قذف الرجل زوجته ؛ والله أعلم . وقرأ الجمهور المحصنات بفتح الصاد ، وكسرها يحيى بن وثاب . والمحصنات العفائف في هذا الموضع . وقد مضى في ( النساء ) ذكر الإحصان ومراتبه . والحمد لله .
الرابعة : للقذف شروط عند العلماء تسعة : شرطان في القاذف ، وهما العقل والبلوغ ؛ لأنهما أصلا التكليف ، إذ التكليف ساقط دونهما . وشرطان في الشيء المقذوف به ، وهو أن يقذف بوطء يلزمه فيه الحد ، وهو الزنا واللواط ؛ أو بنفيه من أبيه دون سائر المعاصي . وخمسة من المقذوف ، وهي العقل والبلوغ والإسلام والحرية والعفة عن الفاحشة التي رمي بها كان عفيفا من غيرها أم لا . وإنما شرطنا في المقذوف العقل والبلوغ كما شرطناهما في القاذف ، وإن لم يكونا من معاني الإحصان لأجل أن الحد إنما وضع للزجر عن الإذاية بالمضرة الداخلة على المقذوف ، ولا مضرة على من عدم العقل والبلوغ ؛ إذ لا يوصف اللواط فيهما ولا منهما بأنه زنى .
الخامسة : اتفق العلماء على أنه إذا صرح بالزنا كان قذفا ورميا موجبا للحد ، فإن عرض ولم يصرح فقالمالك : هو قذف . وقال الشافعي ، وأبو حنيفة : لا يكون قذفا حتى يقول أردت به القذف . والدليل لما قاله مالك هو أن موضوع الحد في القذف إنما هو لإزالة المعرة التي أوقعها القاذف بالمقذوف ، فإذا حصلت المعرة بالتعرض وجب أن يكون قذفا كالتصريح والمعول على الفهم ؛ وقد قال تعالى مخبرا عن شعيب : إنك لأنت الحليم الرشيد أي السفيه الضال ؛ فعرضوا له بالسب بكلام ظاهره المدح في أحد التأويلات ، حسبما تقدم في ( هود ) . وقال تعالى في أبي جهل : ذق إنك أنت العزيز الكريم . وقال حكاية عن مريم : يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا ؛ فمدحوا أباها ونفوا عن أمها البغاء ، أي الزنا ، وعرضوا لمريم بذلك ؛ ولذلك قال تعالى : وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما ، وكفرهم معروف ، والبهتان العظيم هو التعريض لها ؛ أي ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا ، أي أنت بخلافهما ، وقد أتيت بهذا الولد . وقال تعالى : قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ؛ فهذا اللفظ قد فهم منه أن المراد به أن الكفار على غير هدى ، وأن الله تعالى ورسوله على الهدى ؛ ففهم من هذا التعريض ما يفهم من صريحه . وقد حبس عمر - رضي الله عنه - الحطيئة لما قال :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
لأنه شبهه بالنساء في أنهن يطعمن ويسقين ويكسون . ولما سمع قول النجاشي :
قبيلته لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل
قال : ليت الخطاب كذلك ؛ وإنما أراد الشاعر ضعف القبيلة ؛ ومثله كثير .
السادسة : الجمهور من العلماء على أنه لا حد على من قذف رجلا من أهل الكتاب أو امرأة منهم . وقال الزهري ، وسعيد بن المسيب ، وابن أبي ليلى : عليه الحد إذا كان لها ولد من مسلم . وفيه قول ثالث : وهو أنه إذا قذف النصرانية تحت المسلم جلد الحد . قال ابن المنذر : وجل العلماء مجمعون وقائلون بالقول الأول ، ولم أدرك أحدا ولا لقيته يخالف في ذلك . وإذا قذف النصراني المسلم الحر فعليه ما على المسلم ثمانون جلدة ؛ لا أعلم في ذلك خلافا .
السابعة : والجمهور من العلماء على أن العبد إذا قذف حرا يجلد أربعين ؛ لأنه حد يتشطر بالرق كحد الزنا . وروي عن ابن مسعود ، وعمر بن عبد العزيز ، وقبيصة بن ذؤيب يجلد ثمانين . وجلد أبو بكر بن محمد عبدا قذف حرا ثمانين ؛ وبه قال الأوزاعي . احتج الجمهور بقول الله تعالى : فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب . وقال الآخرون : فهمنا هناك أن حد الزنا لله تعالى ، وأنه ربما كان أخف فيمن قلت نعم الله عليه ، وأفحش فيمن عظمت نعم الله عليه . وأما حد القذف فحق للآدمي وجب للجناية على عرض المقذوف ، والجناية لا تختلف بالرق والحرية . وربما قالوا : لو كان يختلف لذكر كما ذكر من الزنا . قال ابن المنذر : والذي عليه علماء الأمصار القول الأول ، وبه أقول .
الثامنة : وأجمع العلماء على أن الحر لا يجلد للعبد إذا افترى عليه لتباين مرتبتهما ، ولقوله - عليه السلام - : من قذف مملوكه بالزنا أقيم عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال خرجه البخاري ، ومسلم . وفي بعض طرقه : من قذف عبده بزنا ، ثم لم يثبت أقيم عليه يوم القيامة الحد ثمانون ذكره الدارقطني . قال العلماء : وإنما كان ذلك في الآخرة لارتفاع الملك ، واستواء الشريف والوضيع ، والحر والعبد ، ولم يكن لأحد فضل إلا بالتقوى ؛ ولما كان ذلك تكافأ الناس في الحدود والحرمة ، واقتص من كل واحد لصاحبه إلا أن يعفو المظلوم عن الظالم . وإنما لم يتكافئوا في الدنيا لئلا تدخل الداخلة على المالكين من مكافأتهم لهم ، فلا تصح لهم حرمة ولا فضل في منزلة ، وتبطل فائدة التسخير ؛ حكمة من الحكيم العليم ، لا إله إلا هو .
التاسعة : قال مالك ، والشافعي : من قذف من يحسبه عبدا فإذا هو حر فعليه الحد ؛ وقاله الحسن البصري ، واختاره ابن المنذر . قال مالك : ومن قذف أم الولد حد ، وروى عن ابن عمر وهو قياس قول الشافعي . وقال الحسن البصري : لا حد عليه .
العاشرة : واختلف العلماء فيمن قال لرجل : يا من وطئ بين الفخذين ؛ فقال ابن القاسم : عليه الحد ؛ لأنه تعريض . وقال أشهب : لا حد فيه ؛ لأنه نسبة إلى فعل لا يعد زنى إجماعا .
الحادية عشرة : إذا رمى صبية يمكن وطؤها قبل البلوغ بالزنا كان قذفا عند مالك . وقال أبو حنيفة ، والشافعي ، وأبو ثور : ليس بقذف ؛ لأنه ليس بزنا إذ لا حد عليها ، ويعزر . قال ابن العربي : والمسألة محتملة مشكلة ، لكن مالك طلب حماية عرض المقذوف ، وغيره راعى حماية ظهر القاذف ؛ وحماية عرض المقذوف أولى ؛ لأن القاذف كشف ستره بطرف لسانه فلزمه الحد . قال ابن المنذر : وقال أحمد في الجارية بنت تسع : يجلد قاذفها ، وكذلك الصبي إذا بلغ عشرا ضرب قاذفه . قال إسحاق : إذا قذف غلاما يطأ مثله فعليه الحد ، والجارية إذا جاوزت تسعا مثل ذلك . قال ابن المنذر : لا يحد من قذف من لم يبلغ ؛ لأن ذلك كذب ، ويعزر على الأذى . قال أبو عبيد : في حديث علي - رضي الله عنه - أن امرأة جاءته فذكرت أن زوجها يأتي جاريتها فقال : إن كنت صادقة رجمناه وإن كنت كاذبة جلدناك . فقالت : ردوني إلى أهلي غيرى نغرة . قال أبو عبيد : في هذا الحديث من الفقه أن على الرجل إذا واقع جارية امرأته الحد .
وفيه أيضا إذا قذفه بذلك قاذف كان على قاذفه الحد ؛ ألا تسمع قوله : وإن كنت كاذبة جلدناك . ووجه هذا كله إذا لم يكن الفاعل جاهلا بما يأتي وبما يقول ، فإن كان جاهلا وادعى شبهة درئ عنه الحد في ذلك كله .
وفيه أيضا أن رجلا لو قذف رجلا بحضرة حاكم وليس المقذوف بحاضر أنه لا شيء على القاذف حتى يجيء فيطلب حده ؛ لأنه لا يدري لعله يصدقه ؛ ألا ترى أن عليا - عليه السلام - لم يعرض لها .
وفيه أن الحاكم إذا قذف عنده رجل ثم جاء المقذوف فطلب حقه أخذه الحاكم بالحد بسماعه ؛ ألا تراه يقول : وإن كنت كاذبة جلدناك ؛ وهذا لأنه من حقوق الناس .
قلت : اختلف هل هو من حقوق الله أو من حقوق الآدميين ؛ وسيأتي . قال أبو عبيد : قال الأصمعي سألني شعبة عن قول : غيرى نغرة ؛ فقلت له : هو مأخوذ من نغر القدر ، وهو غليانها وفورها ؛ يقال منه : نغرت تنغر ، ونغرت تنغر إذا غلت . فمعناه أنها أرادت أن جوفها يغلي من الغيظ والغيرة لما لم تجد عنده ما تريد . قال : ويقال منه رأيت فلانا يتنغر على فلان ؛ أي يغلي جوفه عليه غيظا .
الثانية عشرة : من قذف زوجة من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - حد حدين ؛ قاله مسروق . قاله ابن العربي : والصحيح أنه حد واحد ؛ لعموم قوله تعالى : والذين يرمون المحصنات الآية ، ولا يقتضي شرفهن زيادة في حد من قذفهن ؛ لأن شرف المنزلة لا يؤثر في الحدود ، ولا نقصها يؤثر في الحد بتنقيص . والله أعلم . وسيأتي الكلام فيمن قذف عائشة - رضي الله عنها - ، هل يقتل أم لا .
الثالثة عشرة : قوله تعالى : ثم لم يأتوا بأربعة شهداء الذي يفتقر إلى أربعة شهداء دون سائر الحقوق هو الزنا ؛ رحمة بعباده وسترا لهم . وقد تقدم في سورة النساء .
الرابعة عشرة : من شرط أداء الشهود الشهادة عند مالك رحمه الله أن يكون ذلك في مجلس واحد ؛ فإن افترقت لم تكن شهادة . وقال عبد الملك : تقبل شهادتهم مجتمعين ومفترقين . فرأى مالك أن اجتماعهم تعبد ؛ وبه قال ابن الحسن . ورأى عبد الملك أن المقصود أداء الشهادة واجتماعها ، وقد حصل ؛ وهو قول عثمان البتي ، وأبي ثور ، واختاره ابن المنذر لقوله تعالى : ثم لم يأتوا بأربعة شهداء وقوله : فإذ لم يأتوا بالشهداء ولم يذكر مفترقين ولا مجتمعين .
الخامسة عشرة : فإن تمت الشهادة إلا أنهم لم يعدلوا ؛ فكان الحسن البصري ، والشعبي يريان أن لا حد على الشهود ولا على المشهود ؛ وبه قال أحمد ، والنعمان ، ومحمد بن الحسن . وقال مالك : إذا شهد عليه أربعة بالزنا فإن كان أحدهم مسقوطا عليه أو عبدا يجلدون جميعا . وقال سفيان الثوري ، وأحمد ، وإسحاق في أربعة عميان يشهدون على امرأة بالزنا : يضربون .
السادسة عشرة : فإن رجع أحد الشهود وقد رجم المشهود عليه في الزنا ؛ فقالت طائفة : يغرم ربع الدية ولا شيء على الآخرين . وكذلك قال قتادة ، وحماد ، وعكرمة ، وأبو هاشم ، ومالك ، وأحمد ، وأصحاب الرأي . وقال الشافعي : إن قال عمدت ليقتل ؛ فالأولياء بالخيار إن شاءوا قتلوا وإن شاءوا عفوا وأخذوا ربع الدية ، وعليه الحد . وقال الحسن البصري : يقتل ، وعلى الآخرين ثلاثة أرباع الدية . وقال ابن سيرين : إذا قال أخطأت وأردت غيره فعليه الدية كاملة ، وإن قال تعمدت قتل ؛ وبه قال ابن شبرمة .
السابعة عشرة : واختلف العلماء في حد القذف هل هو من حقوق الله أو من حقوق الآدميين أو فيه شائبة منهما ؛ الأول - قول أبي حنيفة . والثاني : قول مالك ، والشافعي . والثالث : قاله بعض المتأخرين . وفائدة الخلاف أنه إن كان حقا لله تعالى وبلغ الإمام أقامه ، وإن لم يطلب ذلك المقذوف ، ونفعت القاذف التوبة فيما بينه وبين الله تعالى ، ويتشطر فيه الحد بالرق كالزنا . وإن كان حقا للآدمي فلا يقيمه الإمام إلا بمطالبة المقذوف ، ويسقط بعفوه ، ولم تنفع القاذف التوبة حتى يحلله المقذوف .
الثامنة عشرة : قوله تعالى بأربعة شهداء قراءة الجمهور على إضافة الأربعة إلى الشهداء . وقرأ عبد الله بن مسلم بن يسار ، وأبو زرعة بن عمرو بن جرير ( بأربعة ) ( بالتنوين ) ( شهداء ) . وفيه أربعة أوجه : يكون في موضع جر على النعت لأربعة ، أو بدلا . ويجوز أن يكون حالا من نكرة أو تمييزا ؛ وفي الحال والتمييز نظر ؛ إذ الحال من نكرة ، والتمييز مجموع . وسيبويه يرى أنه تنوين العدد ، وترك إضافته إنما يجوز في الشعر . وقد حسن أبو الفتح عثمان بن جني هذه القراءة وحبب على قراءة الجمهور . قال النحاس : ويجوز أن يكون ( شهداء ) في موضع نصب بمعنى ثم لم يحضروا أربعة شهداء .
التاسعة عشرة : حكم شهادة الأربعة أن تكون على معاينة يرون ذلك كالمرود في المكحلة ؛ على ما تقدم في ( النساء ) في نص الحديث . وأن تكون في موطن واحد ؛ على قول مالك . وإن اضطرب واحد منهم جلد الثلاثة ؛ كما فعل عمر في أمر المغيرة بن شعبة ؛ وذلك أنه شهد عليه بالزنا أبو بكرة نفيع بن الحارث ، وأخوه نافع ؛ وقال الزهراوي : عبد الله بن الحارث ، وزياد أخوهما لأم وهو مستلحق معاوية ، وشبل بن معبد البجلي ، فلما جاءوا لأداء الشهادة وتوقف زياد ولم يؤدها ، جلد عمر الثلاثة المذكورين .
الموفية عشرين : قوله تعالى : ( فاجلدوهم ) الجلد الضرب . والمجالدة المضاربة في الجلود أو بالجلود ؛ ثم استعير الجلد لغير ذلك من سيف أو غيره . ومنه قول قيس بن الخطيم :
أجالدهم يوم الحديقة حاسرا كأن يدي بالسيف محراق لاعب
( ثمانين ) نصب على المصدر . ( جلدة ) تمييز . ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون هذا يقتضي مدة أعمارهم ، ثم حكم عليهم بأنهم فاسقون ؛ أي خارجون عن طاعة الله - عز وجل - .