تفسير القرطبي
تفسير الآية رقم 196 من سورة البقرة
وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب قوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله فيها سبع مسائل :
الأولى : اختلف العلماء في المعنى المراد بإتمام الحج والعمرة لله ، فقيل : أداؤهما والإتيان بهما ، كقوله : فأتمهن وقوله : ثم أتموا الصيام إلى الليل أي ائتوا بالصيام ، وهذا على مذهب من أوجب العمرة ، على ما يأتي ، ومن لم يوجبها قال : المراد تمامهما بعد الشروع فيهما ، فإن من أحرم بنسك وجب عليه المضي فيه ولا يفسخه ، قال معناه الشعبي وابن زيد ، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك ، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص ، وفعله عمران بن حصين ، وقال سفيان الثوري : إتمامهما أن تخرج قاصدا لهما لا لتجارة ولا لغير ذلك ، ويقوي هذا قوله " لله " . وقال عمر : إتمامهما أن يفرد كل واحد منهما من غير تمتع وقران ، وقاله ابن حبيب ، وقال مقاتل : إتمامهما ألا تستحلوا فيهما ما لا ينبغي لكم ، وذلك أنهم كانوا يشركون في إحرامهم فيقولون : لبيك اللهم لبيك ، لا شريك لك إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك ، فقال : فأتموهما ولا تخلطوهما بشيء آخر .
قلت : أما ما روي عن علي وفعله عمران بن حصين في الإحرام قبل المواقيت التي وقتها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال به عبد الله بن مسعود وجماعة من السلف ، وثبت أن عمر أهل من إيلياء ، وكان الأسود وعلقمة وعبد الرحمن وأبو إسحاق يحرمون من بيوتهم ، ورخص فيه الشافعي ، وروى أبو داود والدارقطني عن أم سلمة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أحرم من بيت المقدس بحج أو عمرة كان من ذنوبه كيوم ولدته أمه في رواية غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وخرجه أبو داود وقال : " يرحم الله وكيعا أحرم من بيت المقدس ، يعني إلى مكة " ، ففي هذا إجازة الإحرام قبل الميقات ، وكره مالك رحمه الله أن يحرم أحد قبل الميقات ، ويروى ذلك عن عمر بن الخطاب ، وأنه أنكر على عمران بن حصين إحرامه من البصرة ، وأنكر عثمان على ابن عمر إحرامه قبل الميقات ، وقال أحمد وإسحاق : وجه العمل المواقيت ، ومن الحجة لهذا القول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت المواقيت وعينها ، فصارت بيانا لمجمل الحج ، ولم يحرم صلى الله عليه وسلم من بيته لحجته ، بل أحرم من ميقاته الذي وقته لأمته ، وما فعله صلى الله عليه وسلم فهو الأفضل إن شاء الله ، وكذلك صنع جمهور الصحابة والتابعين بعدهم ، واحتج أهل المقالة الأولى بأن ذلك أفضل بقول عائشة : ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ، وبحديث أم سلمة مع ما ذكر عن الصحابة في ذلك ، وقد شهدوا إحرام رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته من ميقاته ، وعرفوا مغزاه ومراده ، وعلموا أن إحرامه من ميقاته كان تيسيرا على أمته .
الثانية : روى الأئمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشام الجحفة ، ولأهل نجد قرن ولأهل اليمن يلملم هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة ، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ ، حتى أهل مكة من مكة يهلون منها ، وأجمع أهل العلم على القول بظاهر هذا الحديث واستعماله ، لا يخالفون شيئا منه ، واختلفوا في ميقات أهل العراق وفيمن وقته ، فروى أبو داود والترمذي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المشرق العقيق . قال الترمذي : هذا حديث حسن ، وروي أن عمر وقت لأهل العراق ذات عرق ، وفي كتاب أبي داود عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق ، وهذا هو الصحيح ومن روى أن عمر وقته لأن العراق في وقته وقد افتتحت ، فغفلة منه ، بل وقته رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وقت لأهل الشام الجحفة ، والشام كلها يومئذ دار كفر كما كانت العراق وغيرها يومئذ من البلدان ، ولم تفتح العراق ولا الشام إلا على عهد عمر . وهذا ما لا خلاف فيه بين أهل السير . قال أبو عمر : كل عراقي أو مشرقي أحرم من ذات عرق فقد أحرم عند الجميع من ميقاته والعقيق أحوط عندهم وأولى من ذات عرق ، وذات عرق ميقاتهم أيضا بإجماع .
الثالثة : أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل أن يأتي الميقات أنه محرم ، وإنما منع من ذلك من رأى الإحرام عند الميقات أفضل ، كراهية أن يضيق المرء على نفسه ما قد وسع الله عليه ، وأن يتعرض بما لا يؤمن أن يحدث في إحرامه ، وكلهم ألزمه الإحرام إذا فعل ذلك ; لأنه زاد ولم ينقص .
الرابعة : في هذه الآية دليل على وجوب العمرة ; لأنه تعالى أمر بإتمامها كما أمر بإتمام الحج . قال الصبي بن معبد : أتيت عمر رضي الله عنه فقلت إني كنت نصرانيا فأسلمت ، وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبتين علي ، وإني أهللت بهما جميعا ، فقال له عمر هديت لسنة نبيك قال ابن المنذر : ولم ينكر عليه قوله : " وجدت الحج والعمرة مكتوبتين علي " ، وبوجوبهما قال علي بن أبي طالب وابن عمر وابن عباس ، وروى الدارقطني عن ابن جريج قال : أخبرني نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول : ليس من خلق الله أحد إلا عليه حجة وعمرة واجبتان من استطاع ذلك سبيلا ، فمن زاد بعدها شيئا فهو خير وتطوع . قال : ولم أسمعه يقول في أهل مكة شيئا . قال ابن جريج : وأخبرت عن عكرمة أن ابن عباس قال : العمرة واجبة كوجوب الحج من استطاع إليه سبيلا ، وممن ذهب إلى وجوبها من التابعين عطاء وطاوس ومجاهد والحسن وابن سيرين والشعبي وسعيد بن جبير وأبو بردة ومسروق وعبد الله بن شداد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وابن الجهم من المالكيين . وقال الثوري : سمعنا أنها واجبة وسئل زيد بن ثابت عن العمرة قبل الحج ، فقال : صلاتان لا يضرك بأيهما بدأت ، ذكره الدارقطني ، وروي مرفوعا عن محمد بن سيرين عن زيد بن ثابت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت وكان مالك يقول : العمرة سنة ولا نعلم أحدا أرخص في تركها ، وهو قول النخعي وأصحاب الرأي فيما حكى ابن المنذر وحكى بعض القزوينيين والبغداديين عن أبي حنيفة أنه كان يوجبها كالحج ، وبأنها سنة ثابتة ، قال ابن مسعود وجابر بن عبد الله . روى الدارقطني حدثنا محمد بن القاسم بن زكريا حدثنا محمد بن العلاء أبو كريب حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن حجاج عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة والزكاة والحج : أواجب هو ؟ قال : نعم فسأله عن العمرة : أواجبة هي ؟ قال : لا وأن تعتمر خير لك . رواه يحيى بن أيوب عن حجاج وابن جريج عن ابن المنكدر عن جابر موقوفا من قول جابر فهذه حجة من لم يوجبها من السنة قالوا : وأما الآية فلا حجة فيها للوجوب ; لأن الله سبحانه إنما قرنها في وجوب الإتمام لا في الابتداء ، فإنه ابتدأ الصلاة والزكاة فقال وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، وابتدأ بإيجاب الحج فقال : ولله على الناس حج البيت ولما ذكر العمرة أمر بإتمامها لا بابتدائها ، فلو حج عشر حجج ، أو اعتمر عشر عمر لزم الإتمام في جميعها ، فإنما جاءت الآية لإلزام الإتمام لا لإلزام الابتداء ، والله أعلم ، واحتج المخالف من جهة النظر على وجوبها بأن قال : عماد الحج الوقوف بعرفة ، وليس في العمرة وقوف ، فلو كانت كسنة الحج لوجب أن تساويه في أفعاله ، كما أن سنة الصلاة تساوي فريضتها في أفعالها .
الخامسة : قرأ الشعبي وأبو حيوة برفع التاء في " العمرة " وهي تدل على عدم الوجوب ، وقرأ الجماعة العمرة بنصب التاء ، وهي تدل على الوجوب ، وفي مصحف ابن مسعود " وأتموا الحج والعمرة إلى البيت لله " وروي عنه " وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت " وفائدة التخصيص بذكر الله هنا أن العرب كانت تقصد الحج للاجتماع والتظاهر والتناضل والتنافر وقضاء الحاجة وحضور الأسواق ، وكل ذلك ليس لله فيه طاعة ، ولا حظ بقصد ، ولا قربة بمعتقد ، فأمر الله سبحانه بالقصد إليه لأداء فرضه وقضاء حقه ، ثم سامح في التجارة ، على ما يأتي .
السادسة : لا خلاف بين العلماء فيمن شهد مناسك الحج وهو لا ينوي حجا ولا عمرة والقلم جار له وعليه أن شهودها بغير نية ولا قصد غير مغن عنه ، وأن النية تجب فرضا ، لقوله تعالى : وأتموا ومن تمام العبادة حضور النية ، وهي فرض كالإحرام عند الإحرام ، لقوله عليه السلام لما ركب راحلته : لبيك بحجة وعمرة معا على ما يأتي ، وذكر الربيع في كتاب البويطي عن الشافعي قال : ولو لبى رجل ولم ينو حجا ولا عمرة لم يكن حاجا ولا معتمرا ، ولو نوى ولم يلب حتى قضى المناسك كان حجه تاما ، واحتج بحديث النبي صلى الله عليه وسلم : إنما الأعمال بالنيات . قال : ومن فعل مثل ما فعل علي حين أهل على إهلال النبي صلى الله عليه وسلم أجزته تلك النية ; لأنها وقعت على نية لغيره قد تقدمت ، بخلاف الصلاة .
السابعة : واختلف العلماء في المراهق والعبد يحرمان بالحج ثم يحتلم هذا ويعتق هذا قبل الوقوف بعرفة ، فقال مالك : لا سبيل لهما إلى رفض الإحرام ولا لأحد متمسكا بقوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله ومن رفض إحرامه فلا يتم حجه ولا عمرته ، وقال أبو حنيفة : جائز للصبي إذا بلغ قبل الوقوف بعرفة أن يجدد إحراما ، فإن تمادى على حجه ذلك لم يجزه من حجة الإسلام ، واحتج بأنه لما لم يكن الحج يجزي عنه ، ولم يكن الفرض لازما له حين أحرم بالحج ثم لزمه حين بلغ استحال أن يشغل عن فرض قد تعين عليه بنافلة ويعطل فرضه ، كمن دخل في نافلة وأقيمت عليه المكتوبة وخشي فوتها قطع النافلة ودخل في المكتوبة ، وقال الشافعي : إذا أحرم الصبي ثم بلغ قبل الوقوف بعرفة فوقف بها محرما أجزأه من حجة الإسلام ، وكذلك العبد . قال : ولو عتق بمزدلفة وبلغ الصبي بها فرجعا إلى عرفة بعد العتق والبلوغ فأدركا الوقوف بها قبل طلوع الفجر أجزت عنهما من حجة الإسلام ، ولم يكن عليهما دم ، ولو احتاطا فأهراقا دما كان أحب إلي ، وليس ذلك بالبين عندي ، واحتج في إسقاط تجديد الإحرام بحديث علي رضي الله عنه إذ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل من اليمن مهلا بالحج : بم أهللت قال قلت : لبيك اللهم بإهلال كإهلال نبيك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإني أهللت بالحج وسقت الهدي . قال الشافعي : ولم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته ، ولا أمره بتجديد نية لإفراد أو تمتع أو قران ، وقال مالك في النصراني يسلم عشية عرفة فيحرم بالحج : أجزأه من حجة الإسلام ، وكذلك العبد يعتق ، والصبي يبلغ إذا لم يكونوا محرمين ولا دم على واحد منهم ، وإنما يلزم الدم من أراد الحج ولم يحرم من الميقات . وقال أبو حنيفة : يلزم العبد الدم ، وهو كالحر عندهم في تجاوز الميقات ، بخلاف الصبي والنصراني فإنهما لا يلزمهما الإحرام لدخول مكة لسقوط الفرض عنهما ، فإذا أسلم الكافر وبلغ الصبي كان حكمهما حكم المكي ، ولا شيء عليهما في ترك الميقات .
قوله تعالى : فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي فيها اثنتا عشرة مسألة :
الأولى : قال ابن العربي : هذه آية مشكلة ، عضلة من العضل .
قلت : لا إشكال فيها ، ونحن نبينها غاية البيان فنقول : الإحصار هو المنع من الوجه الذي تقصده بالعوائق جملة " فجملة " أي بأي عذر كان ، كان حصر عدو أو جور سلطان أو مرض أو ما كان ، واختلف العلماء في تعيين المانع هنا على قولين : الأول : قال علقمة وعروة بن الزبير وغيرهما : هو المرض لا العدو . وقيل : العدو خاصة ، قال ابن عباس وابن عمر وأنس والشافعي . قال ابن العربي : وهو اختيار علمائنا ، ورأى أكثر أهل اللغة ومحصليها على أن " أحصر " عرض للمرض ، و " حصر " نزل به العدو .
قلت : ما حكاه ابن العربي من أنه اختيار علمائنا فلم يقل به إلا أشهب وحده ، وخالفه سائر أصحاب مالك في هذا وقالوا : الإحصار إنما هو المرض ، وأما العدو فإنما يقال فيه : حصر حصرا فهو محصور ، قاله الباجي في المنتقى . وحكى أبو إسحاق الزجاج أنه كذلك عند جميع أهل اللغة ، على ما يأتي ، وقال أبو عبيدة والكسائي : " أحصر " بالمرض ، و " حصر " بالعدو ، وفي المجمل لابن فارس على العكس ، فحصر بالمرض ، وأحصر بالعدو ، وقالت طائفة : يقال أحصر فيهما جميعا من الرباعي ، حكاه أبو عمر .
قلت : وهو يشبه قول مالك حيث ترجم في موطئه " أحصر " فيهما ، فتأمله ، وقال الفراء : هما بمعنى واحد في المرض والعدو . قال القشيري أبو نصر : وادعت الشافعية أن الإحصار يستعمل في العدو ، فأما المرض فيستعمل فيه الحصر ، والصحيح أنهما يستعملان فيهما .
قلت : ما ادعته الشافعية قد نص الخليل بن أحمد وغيره على خلافه . قال الخليل : حصرت الرجل حصرا منعته وحبسته ، وأحصر الحاج عن بلوغ المناسك من مرض أو نحوه ، هكذا قال ، جعل الأول ثلاثيا من حصرت ، والثاني في المرض رباعيا ، وعلى هذا خرج قول ابن عباس : لا حصر إلا حصر العدو ، وقال ابن السكيت : أحصره المرض إذا منعه من السفر أو من حاجة يريدها ، وقد حصره العدو يحصرونه إذا ضيقوا عليه فأطافوا به ، وحاصروه محاصرة وحصارا . قال الأخفش : حصرت الرجل فهو محصور ، أي حبسته . قال : وأحصرني بولي ، وأحصرني مرضي ، أي جعلني أحصر نفسي . قال أبو عمرو الشيباني : حصرني الشيء وأحصرني ، أي حبسني .
قلت : فالأكثر من أهل اللغة على أن " حصر " في العدو ، و " أحصر " في المرض ، وقد قيل ذلك في قول الله تعالى : للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله وقال ابن ميادة :
وما هجر ليلى أن تكون تباعدت عليك ولا أن أحصرتك شغول
وقال الزجاج : الإحصار عند جميع أهل اللغة إنما هو من المرض ، فأما من العدو فلا يقال فيه إلا حصر ، يقال : حصر حصرا ، وفي الأول أحصر إحصارا ، فدل على ما ذكرناه . وأصل الكلمة من الحبس ، ومنه الحصير للذي يحبس نفسه عن البوح بسره ، والحصير : الملك لأنه كالمحبوس من وراء الحجاب . والحصير الذي يجلس عليه لانضمام بعض طاقات البردي إلى بعض ، كحبس الشيء مع غيره .
الثانية : ولما كان أصل الحصر الحبس قالت الحنفية : المحصر من يصير ممنوعا من مكة بعد الإحرام بمرض أو عدو أو غير ذلك ، واحتجوا بمقتضى الإحصار مطلقا ، قالوا : وذكر الأمن في آخر الآية لا يدل على أنه لا يكون من المرض ، قال صلى الله عليه وسلم : الزكام أمان من الجذام وقال : من سبق العاطس بالحمد أمن من الشوص واللوص والعلوص . الشوص : وجع السن ، واللوص : وجع الأذن . والعلوص : وجع البطن . أخرجه ابن ماجه في سننه . قالوا : وإنما جعلنا حبس العدو حصارا قياسا على المرض إذا كان في حكمه ، لا بدلالة الظاهر ، وقال ابن عمر وابن الزبير وابن عباس والشافعي وأهل المدينة : المراد بالآية حصر العدو ; لأن الآية نزلت في سنة ست في عمرة الحديبية حين صد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكة . قال ابن عمر : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فحال كفار قريش دون البيت فنحر النبي صلى الله عليه وسلم هديه وحلق رأسه ، ودل على هذا قوله تعالى : فإذا أمنتم ، ولم يقل : برأتم ، والله أعلم .
الثالثة : جمهور الناس على أن المحصر بعدو يحل حيث أحصر وينحر هديه إن كان ثم هدي ويحلق رأسه ، وقال قتادة وإبراهيم : يبعث بهديه إن أمكنه ، فإذا بلغ محله صار حلالا ، وقال أبو حنيفة : دم الإحصار لا يتوقف على يوم النحر ، بل يجوز ذبحه قبل يوم النحر إذا بلغ محله ، وخالفه صاحباه فقالا : يتوقف على يوم النحر ، وإن نحر قبله لم يجزه ، وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان .
الرابعة : الأكثر من العلماء على أن من أحصر بعدو كافر أو مسلم أو سلطان حبسه في سجن أن عليه الهدي ، وهو قول الشافعي ، وبه قال أشهب ، وكان ابن القاسم يقول : ليس على من صد عن البيت في حج أو عمرة هدي إلا أن يكون ساقه معه ، وهو قول مالك ، ومن حجتهما أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نحر يوم الحديبية هديا قد كان أشعره وقلده حين أحرم بعمرة ، فلما لم يبلغ ذلك الهدي محله للصد أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحر ; لأنه كان هديا وجب بالتقليد والإشعار ، وخرج لله فلم يجز الرجوع فيه ، ولم ينحره رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل الصد ، فلذلك لا يجب على من صد عن البيت هدي ، واحتج الجمهور بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل يوم الحديبية ولم يحلق رأسه حتى نحر الهدي ، فدل ذلك على أن من شرط إحلال المحصر ذبح هدي إن كان عنده ، وإن كان فقيرا فمتى وجده وقدر عليه لا يحل إلا به ، وهو مقتضى قوله : فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي وقد قيل : يحل ويهدي إذا قدر عليه ، والقولان للشافعي ، وكذلك من لا يجد هديا يشتريه ، قولان .
الخامسة : قال عطاء وغيره : المحصر بمرض كالمحصر بعدو ، وقال مالك والشافعي وأصحابهما : من أحصره المرض فلا يحله إلا الطواف بالبيت وإن أقام سنين حتى يفيق ، وكذلك من أخطأ العدد أو خفي عليه الهلال . قال مالك : وأهل مكة في ذلك كأهل الآفاق . قال : وإن احتاج المريض إلى دواء تداوى به وافتدى وبقي على إحرامه لا يحل من شيء حتى يبرأ من مرضه ، فإذا برئ من مرضه مضى إلى البيت فطاف به سبعا ، وسعى بين الصفا والمروة ، وحل من حجته أو عمرته ، وهذا كله قول الشافعي ، وذهب في ذلك إلى ما روي عن عمر وابن عباس وعائشة وابن عمر وابن الزبير أنهم قالوا في المحصر بمرض أو خطأ العدد : إنه لا يحله إلا الطواف بالبيت . وكذلك من أصابه كسر أو بطن منخرق ، وحكم من كانت هذه حاله عند مالك وأصحابه أن يكون بالخيار إذا خاف فوت الوقوف بعرفة لمرضه ، إن شاء مضى إذا أفاق إلى البيت فطاف وتحلل بعمرة ، وإن شاء أقام على إحرامه إلى قابل ، وإن أقام على إحرامه ولم يواقع شيئا مما نهي عنه الحاج فلا هدي عليه ، ومن حجته في ذلك الإجماع من الصحابة على أن من أخطأ العدد أن هذا حكمه ؛ لا يحله إلا الطواف بالبيت . وقال في المكي إذا بقي محصورا حتى فرغ الناس من حجهم : فإنه يخرج إلى الحل فيلبي ويفعل ما يفعله المعتمر ويحل ، فإذا كان قابل حج وأهدى . وقال ابن شهاب الزهري في إحصار من أحصر بمكة من أهلها : لا بد له من أن يقف بعرفة وإن نعش نعشا ، واختار هذا القول أبو بكر محمد بن أحمد بن عبد الله بن بكير المالكي فقال : قول مالك في المحصر المكي أن عليه ما على الآفاق من إعادة الحج والهدي خلاف ظاهر الكتاب ، لقول الله عز وجل : ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام . قال : والقول عندي في هذا قول الزهري في أن الإباحة من الله عز وجل لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام أن يقيم لبعد المسافة يتعالج وإن فاته الحج ، فأما من كان بينه وبين المسجد الحرام ما لا تقصر في مثله الصلاة فإنه يحضر المشاهد وإن نعش نعشا لقرب المسافة بالبيت ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : كل من منع من الوصول إلى البيت بعدو أو مرض أو ذهاب نفقة أو إضلال راحلة أو لدغ هامة فإنه يقف مكانه على إحرامه ويبعث بهديه أو بثمن هديه ، فإذا نحر فقد حل من إحرامه . كذلك قال عروة وقتادة والحسن وعطاء والنخعي ومجاهد وأهل العراق ، لقوله تعالى : فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي الآية .
السادسة : قال مالك وأصحابه : لا ينفع المحرم الاشتراط في الحج إذا خاف الحصر بمرض أو عدو ، وهو قول الثوري وأبي حنيفة وأصحابهم ، والاشتراط أن يقول إذا أهل : لبيك اللهم لبيك ، ومحلي حيث حبستني من الأرض ، وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور : لا بأس أن يشترط وله شرطه ، وقاله غير واحد من الصحابة والتابعين ، وحجتهم حديث ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إني أردت الحج ، أأشترط ؟ قال : نعم . قالت : فكيف أقول ؟ قال : قولي لبيك اللهم لبيك ومحلي من الأرض حيث حبستني . أخرجه أبو داود والدارقطني وغيرهما . قال الشافعي : لو ثبت حديث ضباعة لم أعده ، وكان محله حيث حبسه الله .
قلت : قد صححه غير واحد ، منهم أبو حاتم البستي وابن المنذر ، قال ابن المنذر : ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لضباعة بنت الزبير : حجي واشترطي ، وبه قال الشافعي إذ هو بالعراق ، ثم وقف عنه بمصر . قال ابن المنذر : وبالقول الأول أقول ، وذكره عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج قال : أخبرنا أبو الزبير أن طاوسا وعكرمة أخبراه عن ابن عباس قال : جاءت ضباعة بنت الزبير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إني امرأة ثقيلة وإني أريد الحج ، فكيف تأمرني أن أهل ؟ قال : أهلي واشترطي أن محلي حيث حبستني . قال : فأدركت ، وهذا إسناد صحيح .
السابعة : واختلفت العلماء أيضا في وجوب القضاء على من أحصر ، فقال مالك والشافعي : من أحصر بعدو فلا قضاء عليه بحجه ولا عمرته ، إلا أن يكون ضرورة لم يكن حج ، فيكون عليه الحج على حسب وجوبه عليه ، وكذلك العمرة عند من أوجبها فرضا . وقال أبو حنيفة : المحصر بمرض أو عدو عليه حجة وعمرة ، وهو قول الطبري . قال أصحاب الرأي : إن كان مهلا بحج قضى حجة وعمرة ; لأن إحرامه بالحج صار عمرة . وإن كان قارنا قضى حجة وعمرتين ، وإن كان مهلا بعمرة قضى عمرة ، وسواء عندهم المحصر بمرض أو عدو ، على ما تقدم ، واحتجوا بحديث ميمون ابن مهران قال : خرجت معتمرا عام حاصر أهل الشام ابن الزبير بمكة وبعث معي رجال من قومي بهدي ، فلما انتهيت إلى أهل الشام منعوني أن أدخل الحرم ، فنحرت الهدي مكاني ثم حللت ثم رجعت ، فلما كان من العام المقبل خرجت لأقضي عمرتي ، فأتيت ابن عباس فسألته ، فقال : أبدل الهدي ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يبدلوا الهدي الذي نحروا عام الحديبية في عمرة القضاء ، واستدلوا بقوله عليه السلام : من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى أو عمرة أخرى . رواه عكرمة عن الحجاج بن عمرو الأنصاري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من عرج أو كسر فقد حل وعليه حجة أخرى . قالوا : فاعتمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في العام المقبل من عام الحديبية إنما كان قضاء لتلك العمرة ، قالوا : ولذلك قيل لها عمرة القضاء . واحتج مالك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحدا من أصحابه ولا ممن كان معه أن يقضوا شيئا ولا أن يعودوا لشيء ، ولا حفظ ذلك عنه بوجه من الوجوه ، ولا قال في العام المقبل : إن عمرتي هذه قضاء عن العمرة التي حصرت فيها ، ولم ينقل ذلك عنه . قالوا : وعمرة القضاء وعمرة القضية سواء ، وإنما قيل لها ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضى قريشا وصالحهم في ذلك العام على الرجوع عن البيت وقصده من قابل ، فسميت بذلك عمرة القضية .
الثامنة : لم يقل أحد من الفقهاء فيمن كسر أو عرج أنه يحل مكانه بنفس الكسر غير أبي ثور على ظاهر حديث الحجاج بن عمرو ، وتابعه على ذلك داود بن علي وأصحابه ، وأجمع العلماء على أنه يحل من كسر ، ولكن اختلفوا فيما به يحل ، فقال مالك وغيره : يحل بالطواف بالبيت لا يحله غيره ، ومن خالفه من الكوفيين يقول : يحل بالنية وفعل ما يتحلل به ، على ما تقدم من مذهبه .
التاسعة : لا خلاف بين علماء الأمصار أن الإحصار عام في الحج والعمرة ، وقال ابن سيرين : لا إحصار في العمرة ; لأنها غير مؤقتة ، وأجيب بأنها وإن كانت غير مؤقتة لكن في الصبر إلى زوال العذر ضرر ، وفي ذلك نزلت الآية ، وحكي عن ابن الزبير أن من أحصره العدو أو المرض فلا يحله إلا الطواف بالبيت ، وهذا أيضا مخالف لنص الخبر عام الحديبية .
العاشرة : الحاصر لا يخلو أن يكون كافرا أو مسلما ، فإن كان كافرا لم يجز قتاله ولو وثق بالظهور عليه ، ويتحلل بموضعه ، لقوله تعالى : ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام كما تقدم ولو سأل الكافر جعلا لم يجز ; لأن ذلك وهن في الإسلام ، فإن كان مسلما لم يجز قتاله بحال ، ووجب التحلل ، فإن طلب شيئا ويتخلى عن الطريق جاز دفعه ، ولم يجز القتال لما فيه من إتلاف المهج ، وذلك لا يلزم في أداء العبادات ، فإن الدين أسمح . وأما بذل الجعل فلما فيه من دفع أعظم الضررين بأهونهما ; ولأن الحج مما ينفق فيه المال ، فيعد هذا من النفقة .
الحادية عشرة : والعدو الحاصر لا يخلو أن يتيقن بقاؤه واستيطانه لقوته وكثرته أو لا ، فإن كان الأول حل المحصر مكانه من ساعته ، وإن كان الثاني وهو مما يرجى زواله فهذا لا يكون محصورا حتى يبقى بينه وبين الحج مقدار ما يعلم أنه إن زال العدو لا يدرك فيه الحج ، فيحل حينئذ عند ابن القاسم وابن الماجشون ، وقال أشهب : لا يحل من حصر عن الحج بعدو حتى يوم النحر ، ولا يقطع التلبية حتى يروح الناس إلى عرفة ، وجه قول ابن القاسم : أن هذا وقت يأس من إكمال حجه لعدو غالب ، فجاز له أن يحل فيه ، أصل ذلك يوم عرفة ، ووجه قول أشهب أن عليه أن يأتي من حكم الإحرام بما يمكنه والتزامه له إلى يوم النحر ، الوقت الذي يجوز للحاج التحلل بما يمكنه الإتيان به [ فكان ذلك عليه ] .
قوله تعالى : فما استيسر من الهدي " ما " في موضع رفع ، أي فالواجب أو فعليكم ما استيسر ، ويحتمل أن يكون في موضع نصب ، أي فانحروا أو فاهدوا . وما استيسر عند جمهور أهل العلم شاة وقال ابن عمر وعائشة وابن الزبير : ما استيسر جمل دون جمل ، وبقرة دون بقرة لا يكون من غيرهما ، وقال الحسن : أعلى الهدي بدنة ، وأوسطه بقرة ، وأخسه شاة ، وفي هذا دليل على ما ذهب إليه مالك من أن المحصر بعدو لا يجب عليه القضاء ، لقوله : فما استيسر من الهدي ولم يذكر قضاء ، والله أعلم .
الثانية عشرة : قوله تعالى : من الهدي الهدي والهدي لغتان . وهو ما يهدى إلى بيت الله من بدنة أو غيرها ، والعرب تقول : كم هدي بني فلان ، أي كم إبلهم . وقال أبو بكر : سميت هديا لأن منها ما يهدى إلى بيت الله ، فسميت بما يلحق بعضها ، كما قال تعالى : فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب . أراد فإن زنى الإماء فعلى الأمة منهن إذا زنت نصف ما على الحرة البكر إذا زنت ، فذكر الله المحصنات وهو يريد الأبكار ; لأن الإحصان يكون في أكثرهن فسمين بأمر يوجد في بعضهن ، والمحصنة من الحرائر هي ذات الزوج ، يجب عليها الرجم إذا زنت ، والرجم لا يتبعض ، فيكون على الأمة نصفه ، فانكشف بهذا أن المحصنات يراد بهن الأبكار لا أولات الأزواج ، وقال الفراء : أهل الحجاز وبنو أسد يخففون الهدي ، قال : وتميم وسفلى قيس يثقلون فيقولون : هدي . قال الشاعر :
حلفت برب مكة والمصلى وأعناق الهدي مقلدات
قال : وواحد الهدي هدية ، ويقال في جمع الهدي : أهداء .
قوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فيه سبع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله الخطاب لجميع الأمة محصر ومخلى ، ومن العلماء من يراها للمحصرين خاصة ، أي لا تتحللوا من الإحرام حتى ينحر الهدي . والمحل : الموضع الذي يحل فيه ذبحه ، فالمحل في حصر العدو عند مالك والشافعي : موضع الحصر ، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية قال الله تعالى : والهدي معكوفا أن يبلغ محله قيل : محبوسا إذا كان محصرا ممنوعا من الوصول إلى البيت العتيق ، وعند أبي حنيفة محل الهدي في الإحصار : الحرم ، لقوله تعالى : ثم محلها إلى البيت العتيق ، وأجيب عن هذا بأن المخاطب به الآمن الذي يجد الوصول إلى البيت ، فأما المحصر فخارج من قول الله تعالى : ثم محلها إلى البيت العتيق بدليل نحر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هديهم بالحديبية وليست من الحرم ، واحتجوا من السنة بحديث ناجية بن جندب صاحب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ابعث معي الهدي فأنحره بالحرم . قال : فكيف تصنع به قال : أخرجه في الأودية لا يقدرون عليه ، فأنطلق به حتى أنحره في الحرم ، وأجيب بأن هذا لا يصح ، وإنما ينحر حيث حل ، اقتداء بفعله عليه السلام بالحديبية ، وهو الصحيح الذي رواه الأئمة ; ولأن الهدي تابع للمهدي ، والمهدي حل بموضعه ، فالمهدى أيضا يحل معه .
الثانية : واختلف العلماء على ما قررناه في المحصر هل له أن يحلق أو يحل بشيء من الحل قبل أن ينحر ما استيسر من الهدي ، فقال مالك : السنة الثابتة التي لا اختلاف فيها عندنا أنه لا يجوز لأحد أن يأخذ من شعره حتى ينحر هديه ، قال الله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا حل المحصر قبل أن ينحر هديه فعليه دم ، ويعود حرما كما كان حتى ينحر هديه ، وإن أصاب صيدا قبل أن ينحر الهدي فعليه الجزاء ، وسواء في ذلك الموسر والمعسر لا يحل أبدا حتى ينحر أو ينحر عنه . قالوا : وأقل ما يهديه شاة ، لا عمياء ولا مقطوعة الأذنين ، وليس هذا عندهم موضع صيام . قال أبو عمر : قول الكوفيين فيه ضعف وتناقض ; لأنهم لا يجيزون لمحصر بعدو ولا مرض أن يحل حتى ينحر هديه في الحرم . وإذا أجازوا للمحصر بمرض أن يبعث بهدي ويواعد حامله يوما ينحره فيه فيحل ويحلق فقد أجازوا له أن يحل على غير يقين من نحر الهدي وبلوغه ، وحملوه على الإحلال بالظنون ، والعلماء متفقون على أنه لا يجوز لمن لزمه شيء من فرائضه أن يخرج منه بالظن ، والدليل على أن ذلك ظن قولهم : لو عطب ذلك الهدي أو ضل أو سرق فحل مرسله وأصاب النساء وصاد أنه يعود حراما وعليه جزاء ما صاد ، فأباحوا له فساد الحج وألزموه ما يلزم من لم يحل من إحرامه ، وهذا ما لا خفاء فيه من التناقض وضعف المذاهب ، وإنما بنوا مذهبهم هذا كله على قول ابن مسعود ولم ينظروا في خلاف غيره له ، وقال الشافعي في المحصر إذا أعسر بالهدي : فيه قولان : لا يحل أبدا إلا بهدي ، والقول الآخر : أنه مأمور أن يأتي بما قدر عليه ، فإن لم يقدر على شيء كان عليه أن يأتي به إذا قدر عليه . قال الشافعي : ومن قال هذا قال : يحل مكانه ويذبح إذا قدر ، فإن قدر على أن يكون الذبح بمكة لم يجزه أن يذبح إلا بها ، وإن لم يقدر ذبح حيث قدر . قال ويقال : لا يجزيه إلا هدي ، ويقال : إذا لم يجد هديا كان عليه الإطعام أو الصيام ، وإن لم يجد واحدا من الثلاثة أتى بواحد منها إذا قدر ، وقال في العبد : لا يجزيه إلا الصوم ، تقوم له الشاة دراهم ، ثم الدراهم طعاما ثم يصوم عن كل مد يوما .
الثالثة : واختلفوا إذا نحر المحصر هديه هل له أن يحلق أو لا فقالت طائفة : ليس عليه أن يحلق رأسه ; لأنه قد ذهب عنه النسك ، واحتجوا بأنه لما سقط عنه بالإحصار جميع المناسك كالطواف والسعي - وذلك مما يحل به المحرم من إحرامه - سقط عنه سائر ما يحل به المحرم من أجل أنه محصر ، وممن احتج بهذا وقال به أبو حنيفة ومحمد بن الحسن قالا : ليس على المحصر تقصير ولا حلاق . وقال أبو يوسف : يحلق المقصر ، فإن لم يحلق فلا شيء عليه ، وقد حكى ابن أبي عمران عن ابن سماعة عن أبي يوسف في نوادره أن عليه الحلاق ، والتقصير لا بد له منه واختلف قول الشافعي في هذه المسألة على قولين : أحدهما أن الحلاق للمحصر من النسك ، وهو قول مالك ، والآخر ليس من النسك كما قال أبو حنيفة والحجة لمالك أن الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة قد منع من ذلك كله المحصر وقد صد عنه ، فسقط عنه ما قد حيل بينه وبينه ، وأما الحلاق فلم يحل بينه وبينه ، وهو قادر على أن يفعله ، وما كان قادرا على أن يفعله فهو غير ساقط عنه ومما يدل على أن الحلاق باق على المحصر كما هو باق على من قد وصل إلى البيت سواء قوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله وما رواه الأئمة من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثا وللمقصرين واحدة ، وهو الحجة القاطعة والنظر الصحيح في هذه المسألة ، وإلى هذا ذهب مالك وأصحابه ، والحلاق عندهم نسك على الحاج الذي قد أتم حجه ، وعلى من فاته الحج ، والمحصر بعدو والمحصر بمرض .
الرابعة : روى الأئمة واللفظ لمالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : اللهم ارحم المحلقين قالوا : والمقصرين يا رسول الله ، قال : اللهم ارحم المحلقين قالوا : والمقصرين يا رسول الله ، قال : والمقصرين . قال علماؤنا : ففي دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة دليل على أن الحلق في الحج والعمرة أفضل من التقصير ، وهو مقتضى قوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم الآية ، ولم يقل تقصروا ، وأجمع أهل العلم على أن التقصير يجزئ عن الرجال ، إلا شيء ذكر عن الحسن أنه كان يوجب الحلق في أول حجة يحجها الإنسان .
الخامسة : لم تدخل النساء في الحلق ، وأن سنتهن التقصير ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ليس على النساء حلق إنما عليهن التقصير . خرجه أبو داود عن ابن عباس . وأجمع أهل العلم على القول به . ورأت جماعة أن حلقها رأسها من المثلة ، واختلفوا في قدر ما تقصر من رأسها ، فكان ابن عمر والشافعي وأحمد وإسحاق يقولون : تقصر من كل قرن مثل الأنملة . وقال عطاء : قدر ثلاث أصابع مقبوضة ، وقال قتادة : تقصر الثلث أو الربع ، وفرقت حفصة بنت سيرين بين المرأة التي قعدت فتأخذ الربع ، وفي الشابة أشارت بأنملتها تأخذ وتقلل ، وقال مالك : تأخذ من جميع قرون رأسها ، وما أخذت من ذلك فهو يكفيها ، ولا يجزي عنده أن تأخذ من بعض القرون وتبقي بعضا . قال ابن المنذر : يجزي ما وقع عليه اسم تقصير ، وأحوط أن تأخذ من جميع القرون قدر أنملة .
السادسة : لا يجوز لأحد أن يحلق رأسه حتى ينحر هديه ، وذلك أن سنة الذبح قبل الحلاق ، والأصل في ذلك قوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله وكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه سلم ، بدأ فنحر هديه ثم حلق بعد ذلك ، فمن خالف هذا فقدم الحلاق قبل النحر فلا يخلو أن يقدمه خطأ وجهلا أو عمدا وقصدا ، فإن كان الأول فلا شيء عليه ، رواه ابن حبيب عن ابن القاسم ، وهو المشهور من مذهب مالك ، وقال ابن الماجشون : عليه الهدي ، وبه قال أبو حنيفة . وإن كان الثاني فقد روى القاضي أبو الحسن أنه يجوز تقديم الحلق على النحر ، وبه قال الشافعي . والظاهر من المذهب المنع ، والصحيح الجواز ، لحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال : لا حرج رواه مسلم ، وخرج ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عمن ذبح قبل أن يحلق ، أو حلق قبل أن يذبح فقال : لا حرج .
السابعة : لا خلاف أن حلق الرأس في الحج نسك مندوب إليه وفي غير الحج جائز ، خلافا لمن قال : إنه مثلة ، ولو كان مثلة ما جاز في الحج ولا غيره ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المثلة ، وقد حلق رءوس بني جعفر بعد أن أتاه قتله بثلاثة أيام ، ولو لم يجز الحلق ما حلقهم ، وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يحلق رأسه . قال ابن عبد البر : وقد أجمع العلماء على حبس الشعر وعلى إباحة الحلق . وكفى بهذا حجة ، وبالله التوفيق .
قوله تعالى : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فيها تسع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : فمن كان منكم مريضا استدل بعض علماء الشافعية بهذه الآية على أن المحصر في أول الآية العدو لا المرض ، وهذا لا يلزم ، فإن معنى قوله : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه فحلق ففدية أي فعليه فدية ، وإذا كان واردا في المرض بلا خلاف كان الظاهر أن أول الآية ورد فيمن ورد فيه وسطها وآخرها ، لاتساق الكلام بعضه على بعض ، وانتظام بعضه ببعض ، ورجوع الإضمار في آخر الآية إلى من خوطب في أولها ، فيجب حمل ذلك على ظاهره حتى يدل الدليل على العدول عنه ، ومما يدل على ما قلناه سبب نزول هذه الآية ، روى الأئمة واللفظ للدارقطني : ( عن كعب بن عجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه وقمله يتساقط على وجهه فقال : أيؤذيك هوامك قال نعم . فأمره أن يحلق وهو بالحديبية ، ولم يبين لهم أنهم يحلون بها وهم على طمع أن يدخلوا مكة ، فأنزل الله الفدية ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطعم فرقا بين ستة مساكين ، أو يهدي شاة ، أو يصوم ثلاثة أيام ) . خرجه البخاري بهذا اللفظ أيضا ، فقوله : ولم يبين لهم أنهم يحلون بها ، يدل على أنهم ما كانوا على يقين من حصر العدو لهم ، فإذا الموجب للفدية الحلق للأذى والمرض ، والله أعلم .
الثانية : قال الأوزاعي في المحرم يصيبه أذى في رأسه : إنه يجزيه أن يكفر بالفدية قبل الحلق .
قلت : فعلى هذا يكون المعنى فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك إن أراد أن يحلق ، ومن قدر فحلق ففدية ، فلا يفتدي حتى يحلق ، والله أعلم .
الثالثة : قال ابن عبد البر : كل من ذكر النسك في هذا الحديث مفسرا فإنما ذكره بشاة ، وهو أمر لا خلاف فيه بين العلماء ، وأما الصوم والإطعام فاختلفوا فيه ، فجمهور فقهاء المسلمين على أن الصوم ثلاثة أيام ، وهو محفوظ صحيح في حديث كعب بن عجرة . وجاء عن الحسن وعكرمة ونافع قالوا : الصوم في فدية الأذى عشرة أيام ، والإطعام عشرة مساكين ، ولم يقل أحد بهذا من فقهاء الأمصار ولا أئمة الحديث ، وقد جاء من رواية أبي الزبير عن مجاهد عن عبد الرحمن عن كعب بن عجرة أنه حدثه أنه كان أهل في ذي القعدة ، وأنه قمل رأسه فأتى عليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوقد تحت قدر له ، فقال له : كأنك يؤذيك هوام رأسك ، فقال أجل . قال : احلق واهد هديا ، فقال : ما أجد هديا . قال : فأطعم ستة مساكين ، فقال : ما أجد . قال : صم ثلاثة أيام . قال أبو عمر : كان ظاهر هذا الحديث على الترتيب وليس كذلك ، ولو صح هذا كان معناه الاختيار أولا فأولا ، وعامة الآثار عن كعب بن عجرة وردت بلفظ التخيير ، وهو نص القرآن ، وعليه مضى عمل العلماء في كل الأمصار وفتواهم ، وبالله التوفيق .
الرابعة : اختلف العلماء في الإطعام في فدية الأذى ، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم : الإطعام في ذلك مدان بمد النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو قول أبي ثور وداود ، وروي عن الثوري أنه قال في الفدية : من البر نصف صاع ، ومن التمر والشعير والزبيب صاع . وروي عن أبي حنيفة أيضا مثله ، جعل نصف صاع بر عدل صاع تمر . قال ابن المنذر : وهذا غلط ; لأن في بعض أخبار كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : أن تصدق بثلاثة أصوع من تمر على ستة مساكين ، وقال أحمد بن حنبل مرة كما قال مالك والشافعي ، ومرة قال : إن أطعم برا فمد لكل مسكين ، وإن أطعم تمرا فنصف صاع .
الخامسة : ولا يجزي أن يغدي المساكين ويعشيهم في كفارة الأذى حتى يعطي كل مسكين مدين بمد النبي صلى الله عليه وسلم ، وبذلك قال مالك والثوري والشافعي ومحمد بن الحسن ، وقال أبو يوسف : يجزيه أن يغديهم ويعشيهم .
السادسة : أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من حلق شعره وجزه وإتلافه بحلق أو نورة أو غير ذلك إلا في حالة العلة كما نص على ذلك القرآن ، وأجمعوا على وجوب الفدية على من حلق وهو محرم بغير علة ، واختلفوا فيما على من فعل ذلك ، أو لبس أو تطيب بغير عذر عامدا ، فقال مالك : بئس ما فعل ! وعليه الفدية ، وهو مخير فيها ، وسواء عنده العمد في ذلك والخطأ ، لضرورة وغير ضرورة ، وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما وأبو ثور : ليس بمخير إلا في الضرورة ; لأن الله تعالى قال : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه فإذا حلق رأسه عامدا أو لبس عامدا لغير عذر فليس بمخير وعليه دم لا غير .
السابعة : واختلفوا فيمن فعل ذلك ناسيا ، فقال مالك رحمه الله : العامد والناسي في ذلك سواء في وجوب الفدية ، وهو قول أبي حنيفة والثوري والليث ، وللشافعي في هذه المسألة قولان : أحدهما : لا فدية عليه ، وهو قول داود وإسحاق ، والثاني : عليه الفدية ، وأكثر العلماء يوجبون الفدية على المحرم بلبس المخيط وتغطية الرأس أو بعضه ، ولبس الخفين وتقليم الأظافر ومس الطيب وإماطة الأذى ، وكذلك إذا حلق شعر جسده أو اطلى ، أو حلق مواضع المحاجم ، والمرأة كالرجل في ذلك ، وعليها الفدية في الكحل وإن لم يكن فيه طيب . وللرجل أن يكتحل بما لا طيب فيه ، وعلى المرأة الفدية إذا غطت وجهها أو لبست القفازين ، والعمد والسهو والجهل في ذلك سواء ، وبعضهم يجعل عليهما دما في كل شيء من ذلك . وقال داود : لا شيء عليهما في حلق شعر الجسد .
الثامنة : واختلف العلماء في مواضع الفدية المذكورة ، فقال عطاء : ما كان من دم فبمكة ، وما كان من طعام أو صيام فحيث شاء ، وبنحو ذلك قال أصحاب الرأي ، وعن الحسن أن الدم بمكة ، وقال طاوس والشافعي : الإطعام والدم لا يكونان إلا بمكة ، والصوم حيث شاء ; لأن الصيام لا منفعة فيه لأهل الحرم ، وقد قال الله سبحانه هديا بالغ الكعبة رفقا لمساكين جيران بيته ، فالإطعام فيه منفعة بخلاف الصيام ، والله أعلم ، وقال مالك : يفعل ذلك أين شاء ، وهو الصحيح من القول ، وهو قول مجاهد ، والذبح هنا عند مالك نسك وليس بهدي لنص القرآن والسنة ، والنسك يكون حيث شاء ، والهدي لا يكون إلا بمكة ، ومن حجته أيضا ما رواه عن يحيى بن سعيد في موطئه ، وفيه : فأمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه برأسه - يعني رأس حسين - فحلق ثم نسك عنه بالسقيا فنحر عنه بعيرا . قال مالك قال يحيى بن سعيد : وكان حسين خرج مع عثمان في سفره ذلك إلى مكة ، ففي هذا أوضح دليل على أن فدية الأذى جائز أن تكون بغير مكة ، وجائز عند مالك في الهدي إذا نحر في الحرم أن يعطاه غير أهل الحرم ; لأن البغية فيه إطعام مساكين المسلمين . قال مالك : ولما جاز الصوم أن يؤتى به بغير الحرم جاز إطعام غير أهل الحرم ، ثم إن قوله تعالى : فمن كان منكم مريضا الآية ، أوضح الدلالة على ما قلناه ، فإنه تعالى لما قال : ففدية من صيام أو صدقة أو نسك لم يقل في موضع دون موضع ، فالظاهر أنه حيثما فعل أجزأه . وقال : أو نسك فسمى ما يذبح نسكا ، وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك ولم يسمه هديا ، فلا يلزمنا أن نرده قياسا على الهدي ، ولا أن نعتبره بالهدي مع ما جاء في ذلك عن علي ، وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر كعبا بالفدية ما كان في الحرم ، فصح أن ذلك كله يكون خارج الحرم ، وقد روي عن الشافعي مثل هذا في وجه بعيد .
التاسعة : قوله تعالى : أو نسك النسك : جمع نسيكة ، وهي الذبيحة ينسكها العبد لله تعالى ، ويجمع أيضا على نسائك ، والنسك : العبادة في الأصل ، ومنه قوله تعالى : وأرنا مناسكنا أي متعبداتنا ، وقيل : إن أصل النسك في اللغة الغسل ، ومنه نسك ثوبه إذا غسله ، فكأن العابد غسل نفسه من أدران الذنوب بالعبادة . وقيل : النسك سبائك الفضة ، كل سبيكة منها نسيكة ، فكأن العابد خلص نفسه من دنس الآثام وسبكها .
قوله تعالى : فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فيه ثلاث عشرة مسألة :
الأولى : قوله تعالى : فإذا أمنتم قيل : معناه برأتم من المرض ، وقيل : من خوفكم من العدو المحصر ، قاله ابن عباس وقتادة ، وهو أشبه باللفظ إلا أن يتخيل الخوف من المرض فيكون الأمن منه ، كما تقدم ، والله أعلم .
الثانية : قوله تعالى : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج الآية . اختلف العلماء من المخاطب بهذا ؟ فقال عبد الله بن الزبير وعلقمة وإبراهيم : الآية في المحصرين دون المخلى سبيلهم . وصورة المتمتع عند ابن الزبير : أن يحصر الرجل حتى يفوته الحج ، ثم يصل إلى البيت فيحل بعمرة ، ثم يقضي الحج من قابل ، فهذا قد تمتع بما بين العمرة إلى حج القضاء ، وصورة المتمتع المحصر عند غيره : أن يحصر فيحل دون عمرة ويؤخرها حتى يأتي من قابل فيعتمر في أشهر الحج ويحج من عامه ، وقال ابن عباس وجماعة : الآية في المحصرين وغيرهم ممن خلي سبيله .
الثالثة : لا خلاف بين العلماء في أن التمتع جائز على ما يأتي تفصيله ، وأن الإفراد جائز وأن القرآن جائز ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي كلا ولم ينكره في حجته على أحد من أصحابه ، بل أجازه لهم ورضيه منهم ، صلى الله عليه وسلم . وإنما اختلف العلماء فيما كان به رسول الله صلى الله عليه وسلم محرما في حجته وفي الأفضل من ذلك ، لاختلاف الآثار الواردة في ذلك ، فقال قائلون منهم مالك : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مفردا ، والإفراد أفضل من القران . قال : والقران أفضل من التمتع ، وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل ومن أراد أن يهل بحج فليهل ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل قالت عائشة : فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج ، وأهل به ناس معه ، وأهل ناس بالعمرة والحج ، وأهل ناس بعمرة ، وكنت فيمن أهل بالعمرة ، رواه جماعة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ، وقال بعضهم فيه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأما أنا فأهل بالحج وهذا نص في موضع الخلاف ، وهو حجة من قال بالإفراد وفضله ، وحكى محمد بن الحسن عن مالك أنه قال : إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان مختلفان وبلغنا أن أبا بكر وعمر عملا بأحد الحديثين وتركا الآخر كان في ذلك دلالة على أن الحق فيما عملا به ، واستحب أبو ثور الإفراد أيضا وفضله على التمتع والقران ، وهو أحد قولي الشافعي في المشهور عنه . واستحب آخرون التمتع بالعمرة إلى الحج ، قالوا : وذلك أفضل . وهو مذهب عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير ، وبه قال أحمد بن حنبل ، وهو أحد قولي الشافعي . قال الدارقطني قال الشافعي : اخترت الإفراد ، والتمتع حسن لا نكرهه . احتج من فضل التمتع بما رواه مسلم عن عمران بن حصين قال : نزلت آية المتعة في كتاب الله - يعني متعة الحج - وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لم تنزل