تفسير القرطبي
تفسير الآية رقم 85 من سورة مريم
قوله تعالى : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا في الكلام حذف ، أي إلى جنة الرحمن ، ودار كرامته . كقوله : إني ذاهب إلى ربي سيهدين وكما في الخبر من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله . والوفد اسم للوافدين ، كما يقال : صوم وفطر وزور ، فهو جمع الوافد مثل ركب وراكب ، وصحب وصاحب وهو من وفد يفد وفدا ووفودا ووفادة إذا خرج إلى ملك في فتح أو أمر خطير . الجوهري : يقال : وفد فلان على الأمير أي ورد رسولا فهو وافد ، والجمع وفد مثل صاحب وصحب ، وجمع الوفد وفاد ووفود والاسم الوفادة وأوفدته أنا إلى الأمير أي أرسلته وفي التفسير وفدا أي ركبانا على نجائب طاعتهم . وهذا لأن الوافد في الغالب يكون راكبا والوفد الركبان ووحد ؛ لأنه مصدر ابن جريج وفدا على النجائب ، وقال عمرو بن قيس الملائي : إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله عمله في أحسن صورة وأطيب ريح فيقول هل تعرفني ؟ فيقول : لا - إلا أن الله قد طيب ريحك وحسن صورتك ، فيقول : كذلك كنت في الدنيا أنا عملك الصالح طالما ركبتك في الدنيا اركبني اليوم وتلا يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا وإن الكافر يستقبله عمله في أقبح صورة وأنتن ريح ، فيقول : هل تعرفني ؟ فيقول : لا - إلا إن الله قد قبح صورتك وأنتن ريحك ، فيقول : كذلك كنت في الدنيا أنا عملك السيئ طالما ركبتني في الدنيا ، وأنا اليوم أركبك وتلا وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ولا يصح من قبل إسناده . قاله ابن العربي في ( سراج المريدين ) وذكر هذا الخبر في تفسيره أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري عن ابن عباس بلفظه ومعناه ، وقال أيضا عن ابن عباس : من كان يحب الخيل وفد إلى الله تعالى على خيل لا تروث ولا تبول ، لجمها من الياقوت الأحمر ، ومن الزبرجد الأخضر ومن الدر الأبيض وسروجها من السندس والإستبرق ومن كان يحب ركوب الإبل فعلى نجائب لا تبعر ولا تبول ، أزمتها من الياقوت والزبرجد ، ومن كان يحب ركوب السفن فعلى سفن من ياقوت قد أمنوا الغرق وأمنوا الأهوال ، وقال أيضا عن علي - رضي الله عنه - ولما نزلت الآية قال علي - رضي الله عنه - : يا رسول الله ! إني قد رأيت الملوك ووفودهم فلم أر وفدا إلا ركبانا فما وفد الله ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أما إنهم لا يحشرون على أقدامهم ، ولا يساقون سوقا ، ولكنهم يؤتون بنوق من نوق الجنة لم ينظر الخلائق إلى مثلها ، رحالها الذهب ، وزمامها الزبرجد ، فيركبونها حتى يقرعوا باب الجنة ولفظ الثعلبي في هذا الخبر عن علي أبين وقال علي لما نزلت هذه الآية قلت : يا رسول الله ! إني رأيت الملوك ووفودهم فلم أر وفدا إلا ركبانا . قال : يا علي إذا كان المنصرف من بين يدي الله تعالى تلقت الملائكة المؤمنين بنوق بيض رحالها ، وأزمتها الذهب على كل مركب حلة لا تساويها الدنيا فيلبس كل مؤمن حلة ثم تسير بهم مراكبهم فتهوي بهم النوق حتى تنتهي بهم إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين .
قلت : وهذا الخبر ينص على أنهم لا يركبون ولا يلبسون إلا من الموقف ، وأما إذا خرجوا من القبور فمشاة حفاة عراة غرلا إلى الموقف ؛ بدليل حديث ابن عباس قال : قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بموعظة فقال : يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله تعالى حفاة عراة غرلا الحديث خرجه البخاري ومسلم ، وسيأتي بكماله في سورة ( المؤمنين ) إن شاء الله تعالى وتقدم في ( آل عمران ) من حديث عبد الله بن أنيس بمعناه والحمد لله تعالى ، ولا يبعد أن تحصل الحالتان للسعداء فيكون حديث ابن عباس مخصوصا والله أعلم ، وقال أبو هريرة : ( وفدا ) على الإبل . ابن عباس : ركبانا يؤتون بنوق من الجنة ؛ عليها رحائل من الذهب وسروجها وأزمتها من الزبرجد فيحشرون عليها . وقال علي : ما يحشرون والله على أرجلهم ، ولكن على نوق رحالها من ذهب ونجب سروجها يواقيت ، إن هموا بها سارت وإن حركوها طارت .
وقيل : يفدون على ما يحبون من إبل أو خيل أو سفن على ما تقدم عن ابن عباس والله أعلم وقيل إنما قال وفدا لأن من شأن الوفود عند العرب أن يقدموا بالبشارات وينتظرون الجوائز فالمتقون ينتظرون العطاء والثواب .