تفسير ابن كثير
تفسير الآية رقم 169 من سورة الأعراف
ثم قال تعالى : ( فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ) يقول تعالى : فخلف من بعد ذلك الجيل الذين فيهم الصالح والطالح ، خلف آخر لا خير فيهم ، وقد ورثوا دراسة [ هذا ] الكتاب وهو التوراة - وقال مجاهد : هم النصارى - وقد يكون أعم من ذلك ، ( يأخذون عرض هذا الأدنى ) أي : يعتاضون عن بذل الحق ونشره بعرض الحياة الدنيا ، ويسوفون أنفسهم ويعدونها بالتوبة ، وكلما لاح لهم مثل الأول وقعوا فيه ; ولهذا قال : ( وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ) كما قال سعيد بن جبير : يعملون الذنب ، ثم يستغفرون الله منه ، فإن عرض ذلك الذنب أخذوه .
وقول مجاهد في قوله : ( يأخذون عرض هذا الأدنى ) قال : لا يشرف لهم شيء من الدنيا إلا أخذوه ، حلالا كان أو حراما ، ويتمنون المغفرة ، ويقولون : ( سيغفر لنا ) وإن يجدوا عرضا مثله يأخذوه .
وقال قتادة في : ( فخلف من بعدهم خلف ) أي : والله لخلف سوء ، ورثوا الكتاب بعد أنبيائهم ورسلهم ، ورثهم الله وعهد إليهم ، وقال الله في آية أخرى : ( فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ) [ مريم : 59 ] ، قال ( يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا ) تمنوا على الله أماني ، وغرة يغترون بها ، ( وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ) لا يشغلهم شيء عن شيء ، ولا ينهاهم شيء عن ذلك ، كلما هف لهم شيء من [ أمر ] الدنيا أكلوه ، ولا يبالون حلالا كان أو حراما .
وقال السدي [ في ] قوله : ( فخلف من بعدهم خلف ) إلى قوله : ( ودرسوا ما فيه ) قال : كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضيا إلا ارتشى في الحكم ، وإن خيارهم اجتمعوا ، فأخذ بعضهم على بعض العهود ألا يفعلوا ولا يرتشي ، فجعل الرجل منهم إذا استقضى ارتشى ، فيقال له : ما شأنك ترتشي في الحكم ، فيقول : " سيغفر لي " ، فتطعن عليه البقية الآخرون من بني إسرائيل فيما صنع ، فإذا مات ، أو نزع ، وجعل مكانه رجل ممن كان يطعن عليه ، فيرتشي . يقول : وإن يأت الآخرين عرض الدنيا يأخذوه .
قال الله تعالى : ( ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه ) يقول تعالى منكرا عليهم في صنيعهم هذا ، مع ما أخذ عليهم من الميثاق ليبينن الحق للناس ، ولا يكتمونه كقوله : ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون ) [ آل عمران : 187 ]
وقال ابن جريج : قال ابن عباس : ( ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ) قال : فيما يوجبون على الله من غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون فيها ، ولا يتوبون منها .
وقوله تعالى : ( والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون ) يرغبهم تعالى في جزيل ثوابه ، ويحذرهم من وبيل عقابه ، أي : وثوابي وما عندي خير لمن اتقى المحارم ، وترك هوى نفسه ، وأقبل على طاعة ربه .
( أفلا تعقلون ) يقول : أفليس لهؤلاء الذين اعتاضوا بعرض الدنيا عما عندي عقل يردعهم عما هم فيه من السفه والتبذير ؟ ثم أثنى تعالى على من تمسك بكتابه الذي يقوده إلى اتباع رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، كما هو مكتوب فيه