تفسير ابن كثير
تفسير الآية رقم 133 من سورة الأعراف
قال الله تعالى : ( فأرسلنا عليهم الطوفان )
اختلفوا في معناه ، فعن ابن عباس في رواية : كثرة الأمطار المغرقة المتلفة للزروع والثمار . وبه قال الضحاك بن مزاحم .
وقال ابن عباس في رواية أخرى : هو كثرة الموت . وكذا قال عطاء .
وقال مجاهد : ( الطوفان ) الماء ، والطاعون على كل حال .
وقال ابن جرير : حدثنا أبو هشام الرفاعي ، حدثنا يحيى بن يمان ، حدثنا المنهال بن خليفة ، عن الحجاج ، عن الحكم بن ميناء ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الطوفان الموت " .
وكذا رواه ابن مردويه ، من حديث يحيى بن يمان ، به وهو حديث غريب .
وقال ابن عباس في رواية أخرى : هو أمر من الله طاف بهم ، ثم قرأ : ( فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون . [ فأصبحت كالصريم ] ) [ القلم : 19 ، 20 ]
وأما الجراد فمعروف مشهور ، وهو مأكول ; لما ثبت في الصحيحين عن أبي يعفور قال : سألت عبد الله بن أبي أوفى عن الجراد ، فقال : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد
وروى الشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أحلت لنا ميتتان ودمان : الحوت والجراد ، والكبد والطحال "
ورواه أبو القاسم البغوي ، عن داود بن رشيد ، عن سويد بن عبد العزيز ، عن أبي تمام الأيلي ، عن زيد بن أسلم ، عن ابن عمر مرفوعا مثله
وروى أبو داود ، عن محمد بن الفرج ، عن محمد بن الزبرقان الأهوازي ، عن سليمان التيمي ، عن أبي عثمان ، عن سلمان قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجراد فقال : " أكثر جنود الله ، لا آكله ، ولا أحرمه "
وإنما تركه ، عليه السلام لأنه كان يعافه ، كما عافت نفسه الشريفة أكل الضب ، وأذن فيه .
وقد روى الحافظ ابن عساكر في جزء جمعه في الجراد ، من حديث أبي سعيد الحسن بن علي العدوي ، حدثنا نصر بن يحيى بن سعيد ، حدثنا يحيى بن خالد ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأكل الجراد ، ولا الكلوتين ، ولا الضب ، من غير أن يحرمها . أما الجراد : فرجز وعذاب . وأما الكلوتان : فلقربهما من البول . وأما الضب فقال : " أتخوف أن يكون مسخا " ، ثم قال : غريب ، لم أكتبه إلا من هذا الوجه
وقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، يشتهيه ويحبه ، فروى عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر : أن عمر سئل عن الجراد فقال : ليت أن عندنا منه قفعة أو قفعتين نأكله
وروى ابن ماجه : حدثنا أحمد بن منيع ، عن سفيان بن عيينة ، عن أبي سعد سعيد بن المرزبان البقال ، سمع أنس بن مالك يقول : كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يتهادين الجراد على الأطباق
وقال أبو القاسم البغوي : حدثنا داود بن رشيد ، حدثنا بقية بن الوليد ، عن نمير بن يزيد القيني حدثني أبي ، عن صدي بن عجلان ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن مريم بنت عمران ، عليها السلام ، سألت ربها عز وجل أن يطعمها لحما لا دم له ، فأطعمها الجراد ، فقالت : اللهم أعشه بغير رضاع ، وتابع بينه بغير شياع " وقال نمير : " الشياع " : الصوت .
وقال أبو بكر بن أبي داود : حدثنا أبو تقي هشام بن عبد الملك اليزني حدثنا بقية بن الوليد ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن ضمضم بن زرعة ، عن شريح بن عبيد ، عن أبي زهير النميري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تقاتلوا الجراد ، فإنه جند الله الأعظم " . غريب جدا
وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله تعالى : ( فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد ) قال : كانت تأكل مسامير أبوابهم ، وتدع الخشب .
وروى ابن عساكر من حديث علي بن زيد الخرائطي ، عن محمد بن كثير ، سمعت الأوزاعي يقول : خرجت إلى الصحراء ، فإذا أنا برجل من جراد في السماء ، وإذا برجل راكب على جرادة منها ، وهو شاك في الحديد ، وكلما قال بيده هكذا ، مال الجراد مع يده ، وهو يقول : الدنيا باطل باطل ما فيها ، الدنيا باطل باطل ما فيها ، الدنيا باطل باطل ما فيها .
وروى الحافظ أبو الفرج المعافى بن زكريا الحريري ، حدثنا محمد بن الحسن بن زياد ، حدثنا أحمد بن عبد الرحيم ، أخبرنا وكيع ، عن الأعمش ، أنبأنا عامر قال : سئل شريح القاضي عن الجراد ، فقال : قبح الله الجرادة . فيها خلقة سبعة جبابرة : رأسها رأس فرس ، وعنقها عنق ثور ، وصدرها صدر أسد ، وجناحها جناح نسر ، ورجلاها رجلا جمل . وذنبها ذنب حية ، وبطنها بطن عقرب .
و [ قد ] قدمنا عند قوله تعالى : ( أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة ) [ المائدة : 96 ] حديث حماد بن سلمة ، عن أبي المهزم ، عن أبي هريرة ، قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حج أو عمرة ، فاستقبلنا رجل جراد ، فجعلنا نضربه بالعصي ، ونحن محرمون ، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : " لا بأس بصيد البحر "
وروى ابن ماجه ، عن هارون الحمال عن هاشم بن القاسم ، عن زياد بن عبد الله بن علاثة ، عن موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن أبيه ، عن أنس وجابر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ; أنه كان إذا دعا على الجراد قال : " اللهم أهلك كباره ، واقتل صغاره ، وأفسد بيضه ، واقطع دابره ، وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزاقنا ، إنك سميع الدعاء " . فقال له جابر : يا رسول الله ، أتدعو على جند من أجناد الله بقطع دابره ؟ فقال : " إنما هو نثرة حوت في البحر " قال هاشم أخبرني زياد أنه أخبره من رآه ينثره الحوت قال : من حقق ذلك إن السمك إذا باض في ساحل البحر فنضب الماء عنه وبدا للشمس ، أنه يفقس كله جرادا طيارا .
وقدمنا عند قوله : ( إلا أمم أمثالكم ) [ الأنعام : 38 ] حديث عمر ، رضي الله عنه : " إن الله خلق ألف أمة ، ستمائة في البحر وأربعمائة في البر ، وإن أولها هلاكا الجراد "
وقال أبو بكر بن أبي داود : حدثنا يزيد بن المبارك ، حدثنا عبد الرحمن بن قيس ، حدثنا سالم بن سالم ، حدثنا أبو المغيرة الجوزجاني محمد بن مالك ، عن البراء بن عازب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا وباء مع السيف ، ولا نجاء مع الجراد " . حديث غريب
وأما ( القمل ) فعن ابن عباس : هو السوس الذي يخرج من الحنطة . وعنه أنه الدبى - وهو الجراد الصغار الذي لا أجنحة له . وبه قال مجاهد ، وعكرمة ، وقتادة .
وعن الحسن وسعيد بن جبير : ( القمل ) دواب سود صغار .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ( القمل ) البراغيث .
وقال ابن جرير ) القمل ) جمع واحدتها " قملة " ، وهي دابة تشبه القمل ، تأكلها الإبل ، فيما بلغني ، وهي التي عناها الأعشى بقوله :
قوم تعالج قملا أبناؤهم وسلاسلا أجدا وبابا مؤصدا
قال : وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يزعم أن القمل عند العرب " الحمنان " ، واحدتها " حمنانة " ، وهي صغار القردان فوق القمقامة .
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثنا ابن حميد الرازي ، حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير قال : لما أتى موسى ، عليه السلام ، فرعون قال له : أرسل معي بني إسرائيل ، فأرسل الله عليهم الطوفان - وهو المطر - فصب عليهم منه شيئا ، خافوا أن يكون عذابا ، فقالوا لموسى : ادع لنا ربك يكشف عنا المطر ، فنؤمن لك ، ونرسل معك بني إسرائيل . فدعا ربه ، فلم يؤمنوا ، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل . فأنبت لهم في تلك السنة شيئا لم ينبته قبل ذلك من الزرع والثمر والكلأ فقالوا : هذا ما كنا نتمنى . فأرسل الله عليهم الجراد ، فسلطه على الكلأ فلما رأوا أثره في الكلأ عرفوا أنه لا يبقي الزرع ، فقالوا : يا موسى ، ادع لنا ربك ليكشف عنا الجراد فنؤمن لك ، ونرسل معك بني إسرائيل . فدعا ربه ، فكشف عنهم الجراد ، فلم يؤمنوا ، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل ، فداسوا وأحرزوا في البيوت ، فقالوا : قد أحرزنا . فأرسل الله عليهم القمل - وهو السوس الذي يخرج منه - فكان الرجل يخرج عشرة أجربة إلى الرحى ، فلم يرد منها إلا ثلاثة أقفزة فقالوا لموسى : ادع لنا ربك يكشف عنا القمل ، فنؤمن لك ، ونرسل معك بني إسرائيل . فدعا ربه ، فكشف عنهم ، فأبوا أن يرسلوا معه بني إسرائيل . فبينما هو جالس عند فرعون ، إذ سمع نقيق ضفدع ، فقال لفرعون : ما تلقى أنت وقومك من هذا . قال وما عسى أن يكون كيد هذا ؟ فما أمسوا حتى كان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع ، ويهم أن يتكلم فتثب الضفدع في فيه . فقالوا لموسى : ادع لنا ربك يكشف عنا هذه الضفادع ، فنؤمن لك ، ونرسل معك بني إسرائيل ، فدعا ربه ، فكشف عنهم فلم يؤمنوا . وأرسل الله عليهم الدم ، فكانوا ما استقوا من الأنهار والآبار ، وما كان في أوعيتهم ، وجدوه دما عبيطا ، فشكوا إلى فرعون ، فقالوا : إنا قد ابتلينا بالدم ، وليس لنا شراب . فقال : إنه قد سحركم ! ! فقالوا : من أين سحرنا ، ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئا من الماء إلا وجدناه دما عبيطا ؟ فأتوه وقالوا : يا موسى ، ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم فنؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل . فدعا ربه ، فكشف عنهم ، فلم يؤمنوا ، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل
وقد روي نحو هذا عن ابن عباس ، والسدي ، وقتادة وغير واحد من علماء السلف
وقال محمد بن إسحاق بن يسار ، رحمه الله : فرجع عدو الله فرعون حين آمنت السحرة مغلوبا مغلولا ثم أبى إلا الإقامة على الكفر ، والتمادي في الشر ، فتابع الله عليه الآيات ، وأخذه بالسنين ، فأرسل عليه الطوفان ، ثم الجراد ، ثم القمل ، ثم الضفادع ، ثم الدم ، آيات مفصلات . فأرسل الطوفان - وهو الماء - ففاض على وجه الأرض ثم ركد ، لا يقدرون على أن يحرثوا ولا يعملوا شيئا ، حتى جهدوا جوعا ، فلما بلغهم ذلك ( قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل ) فدعا موسى ربه ، فكشف عنهم ، فلم يفوا له بشيء مما قالوا ، فأرسل الله عليهم الجراد ، فأكل الشجر ، فيما بلغني ، حتى إن كان ليأكل مسامير الأبواب من الحديد ، حتى تقع دورهم ومساكنهم ، فقالوا مثل ما قالوا ، فدعا ربهفكشف عنهم ، فلم يفوا له بشيء مما قالوا ، فأرسل الله عليهم القمل ، فذكر لي أن موسى ، عليه السلام ، أمر أن يمشي إلى كثيب حتى يضربه بعصاه ، فمشى إلى كثيب أهيل عظيم ، فضربه بها ، فانثال عليهم قملا حتى غلب على البيوت والأطعمة ومنعهم النوم والقرارة ، فلما جهدهم قالوا له مثل ما قالوا له ، فدعا ربه ، فكشف عنهم ، فلم يفوا له بشيء مما قالوا . فأرسل الله عليهم الضفادع ، فملأت البيوت والأطعمة والآنية ، فلا يكشف أحد ثوبا ولا طعاما إلا وجد فيه الضفادع ، قد غلبت عليه . فلما جهدهم ذلك ، قالوا له مثل ما قالوا ، فسأل ربه فكشف عنهم ، فلم يفوا له بشيء مما قالوا ، فأرسل الله عليهم الدم ، فصارت مياه آل فرعون دما ، لا يستقون من بئر ولا نهر ، ولا يغترفون من إناء ، إلا عاد دما عبيطا
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور المروزي ، أنبأنا النضر ، أنبأنا إسرائيل ، أنبأنا جابر بن يزيد عن عكرمة ، قال عبد الله بن عمرو : لا تقتلوا الضفادع ، فإنها لما أرسلت على قوم فرعون انطلق ضفدع منها فوقع في تنور فيه نار ، يطلب بذلك مرضات الله ، فأبدلهن الله من هذا أبرد شيء يعلمه من الماء ، وجعل نقيقهن التسبيح . وروي من طريق عكرمة ، عن ابن عباس ، نحوه
وقال زيد بن أسلم : يعني بالدم الرعاف . رواه ابن أبي حاتم .