تفسير ابن كثير
تفسير الآية رقم 25 من سورة النساء
يقول [ تعالى ] ومن لم يجد ) طولا ) أي : سعة وقدرة ( أن ينكح المحصنات المؤمنات ) أي الحرائر .
وقال ابن وهب : أخبرني عبد الجبار ، عن ربيعة : ( ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات ) قال ربيعة الطول الهوى ، ينكح الأمة إذا كان هواه فيها . رواه ابن جرير وابن أبي حاتم .
ثم شرع يشنع على هذا القول ويرده ( فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ) أي : فتزوجوا من الإماء المؤمنات اللاتي يملكهن المؤمنون ، ولهذا قال : ( من فتياتكم المؤمنات ) قال ابن عباس وغيره : فلينكح من إماء المؤمنين ، وكذا قال السدي ومقاتل بن حيان .
ثم اعترض بقوله : ( والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض ) أي : هو العالم بحقائق الأمور وسرائرها ، وإنما لكم أيها الناس الظاهر من الأمور .
ثم قال : ( فانكحوهن بإذن أهلهن ) فدل على أن السيد هو ولي أمته لا تزوج إلا بإذنه ، وكذلك هو ولي عبده ، ليس لعبده أن يتزوج إلا بإذنه ، كما جاء في الحديث : " أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو عاهر " أي زان .
فإن كان مالك الأمة امرأة زوجها من يزوج المرأة بإذنها; لما جاء في الحديث : " لا تزوج المرأة [ المرأة ، ولا المرأة نفسها ] فإن الزانية هي التي تزوج نفسها " .
وقوله : ( وآتوهن أجورهن بالمعروف ) أي : وادفعوا مهورهن بالمعروف ، أي : عن طيب نفس منكم ، ولا تبخسوا منه شيئا استهانة بهن; لكونهن إماء مملوكات .
وقوله : ( محصنات ) أي : عفائف عن الزنا لا يتعاطينه; ولهذا قال : ( غير مسافحات ) وهن الزواني اللاتي لا يمتنعن من أرادهن بالفاحشة .
وقوله : ( ولا متخذات أخدان ) قال ابن عباس : المسافحات ، هن الزواني المعالنات يعني الزواني اللاتي لا يمنعن أحدا أرادهن بالفاحشة . ( ومتخذات أخدان ) يعني : أخلاء .
وكذا روي عن أبي هريرة ، ومجاهد والشعبي ، والضحاك ، وعطاء الخراساني ، ويحيى بن أبي كثير ، ومقاتل بن حيان ، والسدي ، قالوا : أخلاء . وقال الحسن البصري : يعني : الصديق . وقال الضحاك أيضا : ( ولا متخذات أخدان ) ذات الخليل الواحد [ المسيس ] المقرة به ، نهى الله عن ذلك ، يعني [ عن ] تزويجها ما دامت كذلك .
وقوله : ( فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ) اختلف القراء في ) أحصن ) فقرأه بعضهم بضم الهمزة وكسر الصاد ، مبني لما لم يسم فاعله ، وقرئ بفتح الهمزة والصاد فعل لازم ثم قيل : معنى القراءتين واحد . واختلفوا فيه على قولين :
أحدهما : أن المراد بالإحصان هاهنا الإسلام . روي ذلك عن عبد الله بن مسعود ، وابن عمر ، وأنس ، والأسود بن يزيد ، وزر بن حبيش ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، وإبراهيم النخعي ، والشعبي ، والسدي . وروى نحوه الزهري عن عمر بن الخطاب ، وهو منقطع . وهذا هو القول الذي نص عليه الشافعي [ رحمه الله تعالى ] في رواية الربيع ، قال : وإنما قلنا [ ذلك ] استدلالا بالسنة وإجماع أكثر أهل العلم .
وقد روى ابن أبي حاتم في ذلك حديثا مرفوعا ، قال : حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن عبد الله [ الدمشقي ] حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن رجل ، عن أبي عبد الرحمن ، عن علي قال : قال رسول الله صلى عليه وسلم : ( فإذا أحصن ) قال : " إحصانها إسلامها وعفافها " . وقال المراد به هاهنا التزويج ، قال : وقال علي : اجلدوهن .
[ ثم ] قال ابن أبي حاتم : وهو حديث منكر .
قلت : وفي إسناده ضعف ، ومنهم من لم يسم ، و [ مثله ] لا تقوم به حجة .
وقال القاسم وسالم : إحصانها : إسلامها وعفافها .
وقيل : المراد به هاهنا : التزويج . وهو قول ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وطاوس ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة وغيرهم . ونقله أبو علي الطبري في كتابه " الإيضاح " عن الشافعي ، فيما رواه أبو الحكم بن عبد الحكم عنه وقد رواه ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد أنه قال : إحصان الأمة أن ينكحها الحر ، وإحصان العبد أن ينكح الحرة . وكذا روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، رواهما ابن جرير في تفسيره ، وذكره ابن أبي حاتم عن الشعبي والنخعي .
وقيل معنى القراءتين متباين فمن قرأ ( أحصن ) بضم الهمزة ، فمراده التزويج ، ومن قرأ " أحصن " بفتحها ، فمراده الإسلام اختاره الإمام أبو جعفر بن جرير في تفسيره ، وقرره ونصره .
والأظهر - والله أعلم - أن المراد بالإحصان هاهنا التزويج; لأن سياق الآية يدل عليه ، حيث يقول سبحانه وتعالى : ( ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم ) والله أعلم . والآية الكريمة سياقها كلها في الفتيات المؤمنات ، فتعين أن المراد بقوله : ( فإذا أحصن ) أي : تزوجن ، كما فسره ابن عباس ومن تبعه .
وعلى كل من القولين إشكال على مذهب الجمهور; وذلك أنهم يقولون : إن الأمة إذا زنت فعليها خمسون جلدة ، سواء كانت مسلمة أو كافرة ، مزوجة أو بكرا ، مع أن مفهوم الآية يقتضي أنه لا حد على غير المحصنة ممن زنا من الإماء ، وقد اختلفت أجوبتهم عن ذلك ، فأما الجمهور فقالوا : لا شك أن المنطوق مقدم على المفهوم . وقد وردت أحاديث عامة في إقامة الحد على الإماء ، فقدمناها على مفهوم الآية ، فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه ، عن علي ، رضي الله عنه ، أنه خطب فقال : يا أيها الناس ، أقيموا على أرقائكم الحد من أحصن منهم ومن لم يحصن ، فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت فأمرني أن أجلدها ، فإذا هي حديثة عهد بنفاس ، فخشيت إن جلدتها أن أقتلها ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " أحسنت ، اتركها حتى تماثل " .
وعند عبد الله بن أحمد ، عن غير أبيه : " فإذا تعالت من نفسها حدها خمسين " .
وعن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها ، فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ، ثم إن زنت الثانية فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ، ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها ، فليبعها ولو بحبل من شعر " ولمسلم إذا زنت ثلاثا فليبعها في الرابعة " .
وقال مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن سليمان بن يسار ، عن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي قال : أمرني عمر بن الخطاب في فتية من قريش ، فجلدنا من ولائد الإمارة خمسين خمسين في الزنا .
الجواب الثاني : جواب من ذهب إلى أن الأمة إذا زنت ولم تحصن فلا حد عليها ، وإنما تضرب تأديبا ، وهو المحكي عن عبد الله بن عباس ، رضي الله عنه ، وإليه ذهب طاوس ، وسعيد بن جبير ، وأبو عبيد القاسم بن سلام ، وداود بن علي الظاهري في رواية عنه . وعمدتهم مفهوم الآية وهو من مفاهيم الشرط ، وهو حجة عند أكثرهم فهو مقدم على العموم عندهم . وحديث أبي هريرة وزيد بن خالد ، رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن ؟ قال : " إن زنت فحدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير " قال ابن شهاب : لا أدري أبعد الثالثة أو الرابعة .
أخرجاه في الصحيحين وعند مسلم : قال ابن شهاب : الضفير الحبل .
قالوا : فلم يؤقت في هذا الحديث عدد كما وقت في المحصنة بنصف ما على المحصنات من العذاب ، فوجب الجمع بين الآية والحديث بذلك والله أعلم .
وأصرح من ذلك ما رواه سعيد بن منصور ، عن سفيان ، عن مسعر ، عن عمرو بن مرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس على أمة حد حتى تحصن - أو حتى تزوج - فإذا أحصنت بزوج فعليها نصف ما على المحصنات " .
وقد رواه ابن خزيمة ، عن عبد الله بن عمران العابدي عن سفيان به مرفوعا . وقال : رفعه خطأ ، إنما هو من قول ابن عباس ، وكذا رواه البيهقي من حديث عبد الله بن عمران ، وقال مثل ما قاله ابن خزيمة .
قالوا : وحديث علي وعمر [ رضي الله عنهما ] قضايا أعيان ، وحديث أبي هريرة عنه أجوبة :
أحدها : أن ذلك محمول على الأمة المزوجة جمعا بينه وبين هذا الحديث .
الثاني : أن لفظ الحد في قوله : فليجلدها الحد ، لفظ مقحم من بعض الرواة ، بدليل الجواب الثالث وهو :
أن هذا من حديث صحابيين وذلك من رواية أبي هريرة فقط ، وما كان عن اثنين فهو أولى بالتقدم من رواية واحد ، وأيضا فقد رواه النسائي بإسناد على شرط مسلم ، من حديث عباد بن تميم ، عن عمه - وكان قد شهد بدرا - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا زنت الأمة فاجلدوها ، ثم إذا زنت فاجلدوها ، ثم إذا زنت فاجلدوها ، ثم إذا زنت فبيعوها ولو بضفير " .
الرابع : أنه لا يبعد أن بعض الرواة أطلق لفظ الحد في الحديث على الجلد; لأنه لما كان الجلد اعتقد أنه حد ، أو أنه أطلق لفظة الحد على التأديب ، كما أطلق الحد على ضرب من زنى من المرضى بعثكال نخل فيه مائة شمراخ ، وعلى جلد من زنى بأمة امرأته إذا أذنت له فيها مائة ، وإنما ذلك تعزير وتأديب عند من يراه كالإمام أحمد وغيره من السلف . وإنما الحد الحقيقي هو جلد البكر مائة ، ورجم الثيب أو اللائط ، والله أعلم .
وقد روى ابن جرير في تفسيره : حدثنا ابن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ; أنه سمع سعيد بن جبير يقول : لا تضرب الأمة إذا زنت ما لم تتزوج .
وهذا إسناد صحيح عنه ، ومذهب غريب إن أراد أنها لا تضرب أصلا لا حدا ، وكأنه أخذ بمفهوم الآية ولم يبلغه الحديث ، وإن كان أراد أنها لا تضرب حدا ، ولا ينفي ضربها تأديبا ، فهو كقول ابن عباس ومن تبعه في ذلك ، والله أعلم .
الجواب الثالث : أن الآية دلت على أن الأمة المحصنة تحد نصف حد الحرة ، فأما قبل الإحصان فعمومات الكتاب والسنة شاملة لها في جلدها مائة ، كقوله تعالى ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ) [ النور : 2 ] وكحديث عبادة بن الصامت : " خذوا عني ، خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ، والثيب جلد مائة ورجمها بالحجارة " والحديث في صحيح مسلم وغير ذلك من الأحاديث .
وهذا القول هو المشهور عن داود بن علي الظاهري ، وهو في غاية الضعف; لأن الله تعالى إذا كان أمر بجلد المحصنة من الإماء بنصف ما على الحرة من العذاب وهو خمسون جلدة ، فكيف يكون حكمها قبل الإحصان أشد منه بعد الإحصان . وقاعدة الشريعة في ذلك عكس ما قال ، وهذا الشارع عليه السلام يسأله أصحابه عن الأمة إذا زنت ولم تحصن ، فقال : " اجلدوها " ولم يقل مائة ، فلو كان حكمها كما قال داود لوجب بيان ذلك لهم; لأنهم إنما سألوا عن ذلك لعدم بيان حكم جلد المائة بعد الإحصان في الإماء ، وإلا فما الفائدة في قولهم : " ولم تحصن " لعدم الفرق بينهما لو لم تكن الآية نزلت ، لكن لما علموا حكم أحد الحكمين سألوا عن حكم الحال الآخر ، فبينه لهم . كما [ ثبت ] في الصحيحين أنهم لما سألوه عن الصلاة عليه ، فذكرها لهم ثم قال : " والسلام ما قد علمتم " وفي لفظ : لما أنزل الله قوله : ( ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ) [ الأحزاب : 56 ] قالوا : هذا السلام عليك قد عرفناه ، فكيف الصلاة عليك ؟ وذكر الحديث ، وهكذا هذا السؤال .
الجواب الرابع - عن مفهوم الآية - : جواب أبي ثور ، فإن من مذهبه ما هو أغرب من قول داود من وجوه ، ذلك أنه يقول فإذا أحصن فإن عليهن نصف ما على المحصنات المزوجات وهو الرجم ، وهو لا يتناصف فيجب أن ترجم الأمة المحصنة إذا زنت ، وأما قبل الإحصان فيجب جلدها خمسين . فأخطأ في فهم الآية وخالف الجمهور في الحكم ، بل قد قال أبو عبد الله الشافعي ، رحمه الله : ولم يختلف المسلمون في أن لا رجم على مملوك في الزنا; وذلك لأن الآية دلت على أن عليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ، والألف واللام في المحصنات للعهد ، وهن المحصنات المذكورات في أول الآية : ( ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات ) والمراد بهن الحرائر فقط ، من غير تعرض لتزويج غيره ، وقوله : ( نصف ما على المحصنات من العذاب ) يدل على أن المراد من العذاب الذي يمكن تنصيفه وهو الجلد لا الرجم ، والله أعلم .
ثم قد روى الإمام أحمد [ حديثا ] نصا في رد مذهب أبي ثور من رواية الحسن بن سعد عن أبيه أن صفية كانت قد زنت برجل من الحمس ، فولدت غلاما ، فادعاه الزاني ، فاختصما إلى عثمان [ بن عفان ] فرفعهما إلى علي بن أبي طالب ، فقال علي : أقضي فيهما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الولد للفراش وللعاهر الحجر " وجلدهما خمسين خمسين .
وقيل : بل المراد من المفهوم التنبيه بالأعلى على الأدنى ، أي : أن الإماء على النصف من الحرائر في الحد وإن كن محصنات ، وليس عليهن رجم أصلا لا قبل النكاح ولا بعده ، وإنما عليهن الجلد في الحالتين بالسنة . قال ذلك صاحب الإفصاح عن الشافعي ، فيما رواه ابن عبد الحكم ، عنه . وقد ذكره البيهقي في كتاب السنن والآثار ، وهو بعيد عن لفظ الآية; لأنا إنما استفدنا تنصيف الحد من الآية لا من سواها ، فكيف يفهم منها التنصيف فيما عداها ، وقال : بل أريد بأنها في حال الإحصان لا يقيم الحد عليها إلا الإمام ، ولا يجوز لسيدها إقامة الحد عليها والحالة هذه - وهو قول في مذهب الإمام أحمد رحمه الله - فأما قبل الإحصان فله ذلك ، والحد في كلا الموضعين نصف حد الحرة . وهذا أيضا بعيد; لأنه ليس في لفظ الآية ما يدل عليه .
ولولا هذه لم ندر ما حكم الإمام في التنصيف ، ولوجب دخولهن في عموم الآية في تكميل الحد مائة أو رجمهن ، كما أثبت في الدليل عليه ، وقد تقدم عن علي أنه قال : أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحد من أحصن منهم ومن لم يحصن ، وعموم الأحاديث المتقدمة ليس فيها تفصيل بين المزوجة وغيرها ، لحديث أبي هريرة الذي احتج به الجمهور : " إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها " .
ملخص الآية : أنها إذا زنت أقوال : أحدها : أنها تجلد خمسين قبل الإحصان وبعده ، وهل تنفى ؟ فيه ثلاثة أقوال :
[ أحدها ] أنها تنفى عنه والثاني : لا تنفى عنه مطلقا . [ وهو قول علي وفقهاء المدينة ] والثالث : أنها تنفى نصف سنة وهو نفي نصف الحرة . وهذا الخلاف في مذهب الشافعي ، وأما أبو حنيفة فعنده أن النفي تعزير ليس من تمام الحد ، وإنما هو رأي الإمام ، إن شاء فعله وإن شاء تركه في حق الرجال والنساء ، وعند مالك أن النفي إنما هو على الرجال ، وأما النساء فلا ; لأن ذلك مضاد لصيانتهن ، [ وما ورد شيء من النفي في الرجال ولا في النساء نعم حديث عبادة وحديث أبي هريرة ] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيمن زنى ولم يحصن بنفي عام وبإقامة الحد عليه ، رواه البخاري ، و [ كل ] ذلك مخصوص بالمعنى ، وهو أن المقصود من النفي الصون وذلك مفقود في نفي النساء والله أعلم .
والثاني : أن الأمة إذا زنت تجلد خمسين بعد الإحصان ، وتضرب [ قبله ] تأديبا غير محدود بعدد محصور ، وقد تقدم ما رواه ابن جرير عن سعيد بن جبير : أنها لا تضرب قبل الإحصان ، وإن أراد نفيه فيكون مذهبا بالتأويل وإلا فهو كالقول الثاني .
القول الآخر : أنها تجلد قبل الإحصان مائة وبعده خمسين ، كما هو المشهور عن داود ، و [ هو ] أضعف الأقوال : أنها تجلد قبل الإحصان خمسين وترجم بعده ، وهو قول أبي ثور ، وهو ضعيف أيضا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب .
وقوله : ( ذلك لمن خشي العنت منكم ) أي : إنما يباح نكاح الإماء بالشروط المتقدمة لمن خاف على نفسه الوقوع في الزنا ، وشق عليه الصبر عن الجماع ، وعنت بسبب ذلك [ كله ، فحينئذ يتزوج الأمة ، وإن ترك تزوج الأمة ] وجاهد نفسه في الكف عن الزنا ، فهو خير له; لأنه إذا تزوجها جاء أولاده أرقاء لسيدها إلا أن يكون الزوج عربيا فلا تكون أولاده منها أرقاء في قول قديم للشافعي ، ولهذا قال : ( وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم )
ومن هذه الآية الكريمة استدل جمهور العلماء في جواز نكاح الإماء ، على أنه لا بد من عدم الطول لنكاح الحرائر ومن خوف العنت; لما في نكاحهن من مفسدة رق الأولاد ، ولما فيهن من الدناءة في العدول عن الحرائر إليهن . وخالف الجمهور أبا حنيفة وأصحابه في اشتراط الأمرين ، فقالوا : متى لم يكن الرجل مزوجا بحرة جاز له نكاح الأمة المؤمنة والكتابية أيضا ، سواء كان واجدا الطول لحرة أم لا وسواء خاف العنت أم لا وعمدتهم فيما ذهبوا إليه [ عموم ] قوله تعالى : ( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ) [ المائدة : 5 ] أي : العفائف ، وهو يعم الحرائر والإماء ، وهذه الآية عامة ، وهذه أيضا ظاهرة في الدلالة على ما قاله الجمهور والله أعلم .