تفسير ابن كثير
تفسير الآية رقم 100 من سورة النساء
وقوله : ( ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ) هذا تحريض على الهجرة ، وترغيب في مفارقة المشركين ، وأن المؤمن حيثما ذهب وجد عنهم مندوحة وملجأ يتحصن فيه ، و " المراغم " مصدر ، تقول العرب : راغم فلان قومه مراغما ومراغمة ، قال نابغة بني جعدة .
كطود يلاذ بأركانه عزيز المراغم والمهرب
وقال ابن عباس : " المراغم " : التحول من أرض إلى أرض . وكذا روي عن الضحاك والربيع بن أنس ، الثوري ، وقال مجاهد : ( مراغما كثيرا ) يعني : متزحزحا عما يكره . وقال سفيان بن عيينة : ( مراغما كثيرا ) يعني : بروجا .
والظاهر - والله أعلم - أنه التمنع الذي يتحصن به ، ويراغم به الأعداء .
قوله : ( وسعة ) يعني : الرزق . قاله غير واحد ، منهم : قتادة ، حيث قال في قوله : ( يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ) إي ، والله ، من الضلالة إلى الهدى ، ومن القلة إلى الغنى .
وقوله : ( ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله ) أي : ومن خرج من منزله بنية الهجرة ، فمات في أثناء الطريق ، فقد حصل له من الله ثواب من هاجر ، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من الصحاح والمسانيد والسنن ، من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن علقمة بن وقاص الليثي ، عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها ، أو امرأة يتزوجها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه " .
وهذا عام في الهجرة وفي كل الأعمال . ومنه الحديث الثابت في الصحيحين في الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسا . ثم أكمل بذلك العابد المائة ، ثم سأل عالما : هل له من توبة ؟ فقال : ومن يحول بينك وبين التوبة ؟ ثم أرشده إلى أن يتحول من بلده إلى بلد آخر يعبد الله فيه ، فلما ارتحل من بلده مهاجرا إلى البلد الآخر ، أدركه الموت في أثناء الطريق ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فقال هؤلاء : إنه جاء تائبا . وقال هؤلاء : إنه لم يصل بعد . فأمروا أن يقيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أقرب كان منها ، فأمر الله هذه أن تقرب من هذه ، وهذه أن تبعد فوجدوه أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها بشبر ، فقبضته ملائكة الرحمة . وفي رواية : أنه لما جاءه الموت ناء بصدره إلى الأرض التي هاجر إليها .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن محمد بن إبراهيم ، عن محمد بن عبد الله بن عتيك ، عن أبيه عبد الله بن عتيك قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من خرج من بيته مهاجرا في سبيل الله - ثم قال بأصابعه هؤلاء الثلاث : الوسطى والسبابة والإبهام ، فجمعهن وقال : وأين المجاهدون - ؟ فخر عن دابته فمات فقد وقع أجره على الله ، أو لدغته دابة فمات ، فقد وقع أجره على الله أو مات حتف أنفه ، فقد وقع أجره على الله - والله ! إنها لكلمة ما سمعتها من أحد من العرب قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم - ومن قتل قعصا فقد استوجب المآب .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة الحزامي حدثني عبد الرحمن بن المغيرة الحزامي عن المنذر بن عبد الله ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ; أن الزبير بن العوام قال : هاجر خالد بن حزام إلى أرض الحبشة ، فنهشته حية في الطريق فمات ، فنزلت فيه : ( ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما ) قال الزبير : فكنت أتوقعه وأنتظر قدومه وأنا بأرض الحبشة ، فما أحزنني شيء حزن وفاته حين بلغني ; لأنه قل أحد ممن هاجر من قريش إلا معه بعض أهله ، أو ذوي رحمه ، ولم يكن معي أحد من بني أسد بن عبد العزى ، ولا أرجو غيره .
وهذا الأثر غريب جدا فإن هذه القصة مكية ، ونزول هذه الآية مدنية ، فلعله أراد أنها أنزلت تعم حكمه مع غيره ، وإن لم يكن ذلك سبب النزول ، والله أعلم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا سليمان بن داود مولى عبد الله بن جعفر ، حدثنا سهل بن عثمان ، حدثنا عبد الرحمن بن سليمان ، عن الأشعث - هو ابن سوار - عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : خرج ضمرة بن جندب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمات في الطريق قبل أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت : ( ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله [ ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما ] ) .
وحدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن رجاء ، أنبأنا إسرائيل ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير عن أبي ضمرة بن العيص الزرقي ، الذي كان مصاب البصر ، وكان بمكة فلما نزلت : ( إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ) فقلت : إني لغني ، وإني لذو حيلة ، [ قال ] فتجهز يريد النبي صلى الله عليه وسلم فأدركه الموت بالتنعيم ، فنزلت هذه الآية : ( ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت [ فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما ] )
قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا إبراهيم بن زياد سبلان ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن حميد بن أبي حميد ، عن عطاء بن يزيد الليثي ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من خرج حاجا فمات ، كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة ، ومن خرج معتمرا فمات ، كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة ، ومن خرج غازيا في سبيل الله فمات ، كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة " .
وهذا حديث غريب من هذا الوجه .