تفسير ابن كثير
تفسير الآية رقم 96 من سورة آل عمران
يخبر تعالى أن أول بيت وضع للناس ، أي : لعموم الناس ، لعبادتهم ونسكهم ، يطوفون به ويصلون إليه ويعتكفون عنده ( للذي ببكة ) يعني : الكعبة التي بناها إبراهيم الخليل [ عليه السلام ] الذي يزعم كل من طائفتي النصارى واليهود أنهم على دينه ومنهجه ، ولا يحجون إلى البيت الذي بناه عن أمر الله له في ذلك ونادى الناس إلى حجه . ولهذا قال : ( مباركا ) أي وضع مباركا ( وهدى للعالمين )
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه ، عن أبي ذر ، رضي الله عنه ، قال قلت : يا رسول الله ، أي مسجد وضع في الأرض أول ؟ قال : " المسجد الحرام " . قلت : ثم أي ؟ قال : " المسجد الأقصى " . قلت : كم بينهما ؟ قال : " أربعون سنة " . قلت : ثم أي ؟ قال : ثم حيث أدركت الصلاة فصل ، فكلها مسجد " .
وأخرجه البخاري ، ومسلم ، من حديث الأعمش ، به .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا شريك عن مجالد ، عن الشعبي عن علي في قوله تعالى : ( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا ) قال : كانت البيوت قبلة ، ولكنه كان أول بيت وضع لعبادة الله [ تعالى ] .
[ قال ] وحدثنا أبي ، حدثنا الحسن بن الربيع ، حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن خالد بن عرعرة قال : قام رجل إلى علي فقال : ألا تحدثني عن البيت : أهو أول بيت وضع في الأرض ؟ قال لا ، ولكنه أول بيت وضع فيه البركة مقام إبراهيم ، ومن دخله كان آمنا . وذكر تمام الخبر في كيفية بناء إبراهيم البيت ، وقد ذكرنا ذلك مستقصى في سورة البقرة فأغنى عن إعادته .
وزعم السدي أنه أول بيت وضع على وجه الأرض مطلقا . والصحيح قول علي [ رضي الله عنه ] فأما الحديث الذي رواه البيهقي في بناء الكعبة في كتابه دلائل النبوة ، من طريق ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا : " بعث الله جبريل إلى آدم وحواء ، فأمرهما ببناء الكعبة ، فبناه آدم ، ثم أمر بالطواف به ، وقيل له : أنت أول الناس ، وهذا أول بيت وضع للناس " فإنه كما ترى من مفردات ابن لهيعة ، وهو ضعيف . والأشبه ، والله أعلم ، أن يكون هذا موقوفا على عبد الله بن عمرو . ويكون من الزاملتين اللتين أصابهما يوم اليرموك ، من كلام أهل الكتاب .
وقوله تعالى : ( للذي ببكة ) بكة : من أسماء مكة على المشهور ، قيل سميت بذلك لأنها تبك أعناق الظلمة والجبابرة ، بمعنى : يبكون بها ويخضعون عندها . وقيل : لأن الناس يتباكون فيها ، أي : يزدحمون .
قال قتادة : إن الله بك به الناس جميعا ، فيصلي النساء أمام الرجال ، ولا يفعل ذلك ببلد غيرها .
وكذا روي عن مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وعمرو بن شعيب ، ومقاتل بن حيان .
وذكر حماد بن سلمة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : مكة من الفج إلى التنعيم ، وبكة من البيت إلى البطحاء .
وقال شعبة ، عن المغيرة ، عن إبراهيم : بكة : البيت والمسجد . وكذا قال الزهري .
وقال عكرمة في رواية ، وميمون بن مهران : البيت وما حوله بكة ، وما وراء ذلك مكة .
وقال أبو صالح ، وإبراهيم النخعي ، وعطية [ العوفي ] ومقاتل بن حيان : بكة موضع البيت ، وما سوى ذلك مكة .
وقد ذكروا لمكة أسماء كثيرة : مكة ، وبكة ، والبيت العتيق ، والبيت الحرام ، والبلد الأمين ، والمأمون ، وأم رحم ، وأم القرى ، وصلاح ، والعرش على وزن بدر ، والقادس ، لأنها تطهر من الذنوب ، والمقدسة ، والناسة : بالنون ، وبالباء أيضا ، والحاطمة ، والنساسة ، والرأس ، وكوثى ، والبلدة ، والبنية ، والكعبة .