تفسير ابن كثير
تفسير الآية رقم 172 من سورة آل عمران
وقوله : ( الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ) هذا كان يوم " حمراء الأسد " ، وذلك أن المشركين لما أصابوا ما أصابوا من المسلمين كروا راجعين إلى بلادهم ، فلما استمروا في سيرهم تندموا لم لا تمموا على أهل المدينة وجعلوها الفيصلة . فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب المسلمين إلى الذهاب وراءهم ليرعبهم ويريهم أن بهم قوة وجلدا ، ولم يأذن لأحد سوى من حضر الوقعة يوم أحد ، سوى جابر بن عبد الله رضي الله عنه - لما سنذكره - فانتدب المسلمون على ما بهم من الجراح والإثخان طاعة لله [ عز وجل ] ولرسوله صلى الله عليه وسلم .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو ، عن عكرمة قال : لما رجع المشركون عن أحد قالوا : لا محمدا قتلتم ، ولا الكواعب أردفتم ، بئسما صنعتم ، ارجعوا . فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فندب المسلمين فانتدبوا حتى بلغ حمراء الأسد - أو : بئر أبي عيينة - الشك من سفيان - فقال المشركون : نرجع من قابل . فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانت تعد غزوة ، فأنزل الله عز وجل : ( الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم )
ورواه ابن مردويه من حديث محمد بن منصور ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو ، عن عكرمة ، عن ابن عباس فذكره .
وقال محمد بن إسحاق : كان يوم أحد يوم السبت للنصف من شوال ، فلما كان الغد من يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال ، أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب العدو ، وأذن مؤذنه ألا يخرج معنا أحد إلا أحد حضر يومنا بالأمس . فكلمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام فقال : يا رسول الله ، إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع وقال : يا بني ، إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن ، ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي ، فتخلف على أخواتك ، فتخلفت عليهن ، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج معه . وإنما خرج رسول الله مرهبا للعدو ، وليبلغهم أنه خرج في طلبهم ليظنوا به قوة ، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم .
قال ابن إسحاق : حدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت ، عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان ، أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني عبد الأشهل ، كان شهد أحدا قال : شهدت أحدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأخي فرجعنا جريحين ، فلما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو ، قلت لأخي - أو قال لي - : أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ والله ما لنا من دابة نركبها ، وما منا إلا جريح ثقيل ، فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكنت أيسر جراحا منه ، فكان إذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون .
وقال البخاري : حدثنا محمد بن سلام ، حدثنا أبو معاوية ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها : ( الذين استجابوا لله والرسول ) [ من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم ] ) قالت لعروة : يا ابن أختي ، كان أبواك منهم الزبير وأبو بكر ، رضي الله عنهما ، لما أصاب نبي الله صلى الله عليه وسلم ما أصابه يوم أحد ، وانصرف عنه المشركون ، خاف أن يرجعوا فقال : " من يرجع في إثرهم ؟ " فانتدب منهم سبعون رجلا فيهم أبو بكر والزبير ، رضي الله عنهما .
هكذا رواه البخاري منفردا به ، بهذا السياق . وهكذا رواه الحاكم في مستدركه عن الأصم ، عن العباس الدوري ، عن أبي النضر ، عن أبي سعيد المؤدب ، عن هشام بن عروة ، به ، ثم قال : صحيح ولم يخرجاه . كذا قال .
ورواه أيضا من حديث إسماعيل بن أبي خالد ، عن البهي ، عن عروة قال : قالت لي عائشة : يا بني ، إن أباك من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح . ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه .
وروى ابن ماجه ، عن هشام بن عمار ، وهدبة بن عبد الوهاب عن سفيان بن عيينة ، عن هشام بن عروة به وهكذا رواه سعيد بن منصور وأبو بكر الحميدي في مسنده عن سفيان ، به .
وقال أبو بكر بن مردويه . حدثنا عبد الله بن جعفر من أصل كتابه ، أنبأنا سمويه ، أنبأنا عبد الله بن الزبير ، أنبأنا سفيان ، أنبأنا هشام ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن كان أبواك لمن الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح : أبو بكر والزبير ، رضي الله عنهما " .
ورفع هذا الحديث خطأ محض من جهة إسناده ، لمخالفته رواية الثقات من وقفه على عائشة كما قدمناه ، ومن جهة معناه ، فإن الزبير ليس هو من آباء عائشة ، وإنما قالت عائشة لعروة بن الزبير ذلك لأنه ابن أختها أسماء بنت أبي بكر الصديق ، رضي الله عنهم .
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن سعد ، حدثني أبي ، [ حدثني ] عمي ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : إن الله قذف في قلب أبي سفيان الرعب يوم أحد بعد ما كان منه ما كان ، فرجع إلى مكة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرفا ، وقد رجع ، وقذف الله في قلبه الرعب " . وكانت وقعة أحد في شوال ، وكان التجار يقدمون المدينة في ذي القعدة ، فينزلون ببدر الصغرى في كل سنة مرة ، وإنهم قدموا بعد وقعة أحد وكان أصاب المؤمنين القرح ، واشتكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، واشتد عليهم الذي أصابهم . وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب الناس لينطلقوا معه ، ويتبعوا ما كانوا متبعين ، وقال : " إنما يرتحلون الآن فيأتون الحج ولا يقدرون على مثلها حتى عام مقبل " . فجاء الشيطان فخوف أولياءه فقال : إن الناس قد جمعوا لكم فأبى عليه الناس أن يتبعوه ، فقال : " إني ذاهب وإن لم يتبعني أحد " . لأحضض الناس ، فانتدب معه أبو بكر الصديق ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، والزبير ، وسعد ، وطلحة ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعبد الله بن مسعود ، وحذيفة بن اليمان ، وأبو عبيدة بن الجراح في سبعين رجلا فساروا في طلب أبي سفيان ، فطلبوا حتى بلغوا الصفراء ، فأنزل الله [ عز وجل ] ( الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم [ القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم ] ) .
ثم قال ابن إسحاق : فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى حمراء الأسد ، وهي من المدينة على ثمانية أميال .
قال ابن هشام : واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم فأقام بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء ، ثم رجع إلى المدينة . وقد مر به - كما حدثني عبد الله بن أبي بكر - معبد بن أبي معبد الخزاعي ، وكانت خزاعة - مسلمهم ومشركهم - عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة ، صفقتهم معه ، لا يخفون عنه شيئا كان بها ، ومعبد يومئذ مشرك فقال : يا محمد ، أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك ، ولوددنا أن الله عافاك فيهم . ثم خرج ورسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد ، حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالروحاء ، وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقالوا : أصبنا حد أصحابه وقادتهم وأشرافهم ، ثم نرجع قبل أن نستأصلهم . . لنكرن على بقيتهم فلنفرغن منهم . فلما رأى أبو سفيان معبدا قال : ما وراءك يا معبد ؟ قال : محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط ، يتحرقون عليكم تحرقا ، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم ، وندموا على ما صنعوا ، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط . قال : ويلك . ما تقول ؟ قال : والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل - قال : فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم . قال : فإني أنهاك عن ذلك . ووالله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيهم أبياتا من شعر ، قال : وما قلت ؟ قال : قلت :
كادت تهد من الأصوات راحلتي إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل تردى بأسد كرام لا تنابلة
عند اللقاء ولا ميل معازيل فظلت عدوا أظن الأرض مائلة
لما سموا برئيس غير مخذول فقلت : ويل ابن حرب من لقائكم
إذا تغطمطت البطحاء بالجيل إني نذير لأهل البسل ضاحية
لكل ذي إربة منهم ومعقول من جيش أحمد لا وخش تنابلة
وليس يوصف ما أنذرت بالقيل
قال : فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه .
ومر به ركب من بني عبد القيس ، فقال : أين تريدون ؟ قالوا : نريد المدينة . قال : ولم ؟ قالوا : بعكاظ إذ وافيتمونا . قالوا : نعم . قال : فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا المسير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم ، فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد ، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه ، فقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل .
وذكر ابن هشام عن أبي عبيدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه رجوعهم : " والذي نفسي بيده لقد سومت لهم حجارة لو صبحوا بها لكانوا كأمس الذاهب " .
وقال الحسن البصري [ في قوله ] ( الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ) إن أبا سفيان وأصحابه أصابوا من المسلمين ما أصابوا ورجعوا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أبا سفيان قد رجع وقد قذف الله في قلبه [ الرعب ] فمن ينتدب في طلبه ؟ " فقام النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فاتبعوهم ، فبلغ أبا سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم ، يطلبه فلقي عيرا من التجار فقال : ردوا محمدا ولكم من الجعل كذا وكذا ، وأخبروهم أني قد جمعت لهم جموعا ، وأنني راجع إليهم . فجاء التجار فأخبروا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( حسبنا الله ونعم الوكيل ) فأنزل الله هذه الآية .
وهكذا قال عكرمة ، وقتادة وغير واحد : إن هذا السياق نزل في شأن [ غزوة ] حمراء الأسد " ، وقيل : نزلت في بدر الموعد ، والصحيح الأول .