تفسير ابن كثير
تفسير الآية رقم 82 من سورة النمل
هذه الدابة تخرج في آخر الزمان عند فساد الناس وتركهم أوامر الله وتبديلهم الدين الحق ، يخرج الله لهم دابة من الأرض - قيل : من مكة . وقيل : من غيرها . كما سيأتي تفصيله - فتكلم الناس على ذلك .
قال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة - وروي عن علي رضي الله عنه - : تكلمهم كلاما أي : تخاطبهم مخاطبة .
وقال عطاء الخراساني : تكلمهم فتقول لهم : إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون . ويروى هذا عن علي ، واختاره ابن جرير . وفي هذا [ القول ] نظر لا يخفى ، والله أعلم .
وقال ابن عباس - في رواية - تجرحهم . وعنه رواية ، قال : كلا تفعل يعني هذا وهذا ، وهو قول حسن ، ولا منافاة ، والله أعلم .
وقد ورد في ذكر الدابة أحاديث وآثار كثيرة ، فلنذكر ما تيسر منها ، والله المستعان :
قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن فرات ، عن أبي الطفيل ، عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال : أشرف علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غرفة ونحن نتذاكر أمر الساعة فقال : لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات : طلوع الشمس من مغربها ، والدخان ، والدابة ، وخروج يأجوج ومأجوج ، وخروج عيسى ابن مريم ، والدجال ، وثلاثة خسوف : خسف بالمغرب ، وخسف بالمشرق ، وخسف بجزيرة العرب ، ونار تخرج من قعر عدن تسوق - أو : تحشر - الناس ، تبيت معهم حيث باتوا ، وتقيل معهم حيث قالوا " .
وهكذا رواه مسلم وأهل السنن ، من طرق ، عن فرات القزاز ، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة ، عن حذيفة موقوفا . وقال الترمذي : حسن صحيح . ورواه مسلم أيضا من حديث عبد العزيز بن رفيع ، عن أبي الطفيل ، عنه مرفوعا . والله أعلم .
طريق أخرى : قال أبو داود الطيالسي ، عن طلحة بن عمرو ، وجرير بن حازم ، فأما طلحة فقال : أخبرني عبد الله بن عبيد الله بن عمير الليثي : أن أبا الطفيل حدثه ، عن حذيفة بن أسيد الغفاري أبي سريحة ، وأما جرير فقال : عن عبد الله بن عبيد ، عن رجل من آل عبد الله بن مسعود - وحديث طلحة أتم وأحسن - قال : ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدابة فقال : " لها ثلاث خرجات من الدهر ، فتخرج خرجة من أقصى البادية ، ولا يدخل ذكرها القرية - يعني : مكة - ثم تكمن زمانا طويلا ثم تخرج خرجة أخرى دون تلك ، فيعلو ذكرها في أهل البادية ، ويدخل ذكرها القرية " يعني : مكة . - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ثم بينما الناس في أعظم المساجد على الله حرمة وأكرمها : المسجد الحرام ، لم يرعهم إلا وهي ترغو بين الركن والمقام ، تنفض عن رأسها التراب ، فارفض الناس عنها شتى ومعا ، وبقيت عصابة من المؤمنين ، وعرفوا أنهم لم يعجزوا الله ، فبدأت بهم فجلت وجوههم حتى جعلتها كأنها الكوكب الدري ، وولت في الأرض لا يدركها طالب ، ولا ينجو منها هارب ، حتى إن الرجل ليتعوذ منها بالصلاة ، فتأتيه من خلفه فتقول : يا فلان ، الآن تصلي ؟ فيقبل عليها فتسمه في وجهه ، ثم تنطلق ويشترك الناس في الأموال ، ويصطحبون في الأمصار ، يعرف المؤمن من الكافر ، حتى إن المؤمن ليقول : يا كافر ، اقضني حقي . وحتى إن الكافر ليقول : يا مؤمن ، اقضني حقي " .
ورواه ابن جرير من طريقين ، عن حذيفة بن أسيد موقوفا فالله أعلم . ورواه من رواية حذيفة بن اليمان مرفوعا ، وأن ذلك في زمان عيسى ابن مريم ، وهو يطوف بالبيت ، ولكن إسناده لا يصح .
حديث آخر : قال مسلم بن الحجاج : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا محمد بن بشر ، عن أبي حيان ، عن أبي زرعة ، عن عبد الله بن عمرو قال : حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثا لم أنسه بعد : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدابة على الناس ضحى ، وأيتهما ما كانت قبل صاحبتها ، فالأخرى على إثرها قريبا " .
حديث آخر : روى مسلم في صحيحه من حديث العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب - مولى الحرقة - عن أبيه : عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " بادروا بالأعمال ستا : طلوع الشمس من مغربها ، أو الدخان ، أو الدجال ، أو الدابة ، أو خاصة أحدكم ، أو أمر العامة " . وله من حديث قتادة ، عن الحسن ، عن زياد بن رباح ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " بادروا بالأعمال ستا : الدجال ، والدخان ، ودابة الأرض ، وطلوع الشمس من مغربها ، وأمر العامة وخويصة أحدكم " .
حديث آخر : قال ابن ماجة : حدثنا حرملة بن يحيى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث وابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن سنان بن سعد ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " بادروا بالأعمال ستا : طلوع الشمس من مغربها ، والدخان ، ودابة الأرض ، والدجال ، وخويصة أحدكم ، وأمر العامة " . تفرد به .
حديث آخر : قال أبو داود الطيالسي أيضا : حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أوس بن خالد ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " تخرج دابة الأرض ، ومعها عصا موسى وخاتم سليمان ، عليهما السلام ، فتخطم أنف الكافر بالعصا ، وتجلي وجه المؤمن بالخاتم ، حتى يجتمع الناس على الخوان يعرف المؤمن من الكافر " .
ورواه الإمام أحمد ، عن بهز وعفان ويزيد بن هارون ، ثلاثتهم عن حماد بن سلمة ، به . وقال : " فتخطم أنف الكافر بالخاتم ، وتجلو وجه المؤمن بالعصا ، حتى إن أهل الخوان الواحد ليجتمعون فيقول هذا : يا مؤمن ، ويقول هذا : يا كافر " .
ورواه ابن ماجة ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن يونس بن محمد المؤدب ، عن حماد بن سلمة ، به .
حديث آخر : قال ابن ماجة : حدثنا أبو غسان محمد بن عمرو ، حدثنا أبو تميلة ، حدثنا خالد بن عبيد ، حدثنا عبد الله بن بريدة ، عن أبيه قال : ذهب بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى موضع بالبادية ، قريب من مكة ، فإذا أرض يابسة حولها رمل ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " تخرج الدابة من هذا الموضع . فإذا فتر في شبر " .
قال ابن بريدة : فحججت بعد ذلك بسنين ، فأرانا عصا له ، فإذا هو بعصاي هذه ، كذا وكذا .
وقال عبد الرزاق عن معمر ، عن قتادة ; أن ابن عباس قال : هي دابة ذات زغب ، لها أربع قوائم ، تخرج من بعض أودية تهامة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن رجاء ، حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية قال : قال عبد الله : تخرج الدابة من صدع من الصفا كجري الفرس ثلاثة أيام ، لم يخرج ثلثها .
وقال محمد بن إسحاق ، عن أبان بن صالح قال : سئل عبد الله بن عمرو عن الدابة ، فقال : الدابة تخرج من تحت صخرة بجياد ، والله لو كنت معهم - أو لو شئت بعصاي الصخرة التي تخرج الدابة من تحتها . قيل : فتصنع ماذا يا عبد الله بن عمرو ؟ قال : تستقبل المشرق فتصرخ صرخة تنفذه ، ثم تستقبل الشام فتصرخ صرخة تنفذه ، ثم تستقبل المغرب فتصرخ صرخة تنفذه ، ثم تستقبل اليمن فتصرخ صرخة تنفذه ، ثم تروح من مكة فتصبح بعسفان . قيل : ثم ماذا ؟ قال : لا أعلم .
وعن عبد الله بن عمر ، أنه قال : تخرج الدابة ليلة جمع . ورواه ابن أبي حاتم . وفي إسناده ابن البيلمان .
وعن وهب بن منبه : أنه حكى من كلام عزير ، عليه السلام ، أنه قال : وتخرج من تحت سدوم دابة تكلم الناس كل يسمعها ، وتضع الحبالى قبل التمام ، ويعود الماء العذب أجاجا ، ويتعادى الأخلاء ، وتحرق الحكمة ، ويرفع العلم ، وتكلم الأرض التي تليها . وفي ذلك الزمان يرجو الناس ما لا يبلغون ، ويتعبون فيما لا ينالون ، ويعملون فيما لا يأكلون . رواه ابن أبي حاتم ، عنه .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو صالح - كاتب الليث - حدثني معاوية بن صالح ، عن أبي مريم : أنه سمع أبا هريرة ، رضي الله عنه ، يقول : إن الدابة فيها من كل لون ، ما بين قرنيها فرسخ للراكب .
وقال ابن عباس : هي مثل الحربة الضخمة .
وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، أنه قال : إنها دابة لها ريش وزغب وحافر ، وما لها ذنب ، ولها لحية ، وإنها لتخرج حضر الفرس الجواد ثلاثا ، وما خرج ثلثها . ورواه ابن أبي حاتم .
وقال ابن جريج ، عن ابن الزبير أنه وصف الدابة فقال : رأسها رأس ثور ، وعينها عين خنزير ، وأذنها أذن فيل ، وقرنها قرن أيل ، وعنقها عنق نعامة ، وصدرها صدر أسد ، ولونها لون نمر ، وخاصرتها خاصرة هر ، وذنبها ذنب كبش ، وقوائمها قوائم بعير ، بين كل مفصلين اثنا [ عشر ] ذراعا ، تخرج معها عصا موسى ، وخاتم سليمان ، فلا يبقى مؤمن إلا نكتت في وجهه بعصا موسى نكتة بيضاء ، فتفشو تلك النكتة حتى يبيض لها وجهه ، ولا يبقى كافر إلا نكتت في وجهه نكتة سوداء بخاتم سليمان ، فتفشو تلك النكتة حتى يسود لها وجهه ، حتى إن الناس يتبايعون في الأسواق : بكم ذا يا مؤمن ، بكم ذا يا كافر ؟ وحتى إن أهل البيت يجلسون على مائدتهم ، فيعرفون مؤمنهم من كافرهم ، ثم تقول لهم الدابة : يا فلان ، أبشر ، أنت من أهل الجنة ، ويا فلان ، أنت من أهل النار . فذلك قول الله تعالى : ( وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ) .