تفسير ابن كثير
تفسير الآية رقم 55 من سورة النور
هذا وعد من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم . بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض ، أي : أئمة الناس والولاة عليهم ، وبهم تصلح البلاد ، وتخضع لهم العباد ، وليبدلن بعد خوفهم من الناس أمنا وحكما فيهم ، وقد فعل تبارك وتعالى ذلك . وله الحمد والمنة ، فإنه لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين ، وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكمالها . وأخذ الجزية من مجوس هجر ، ومن بعض أطراف الشام ، وهاداه هرقل ملك الروم وصاحب مصر والإسكندرية - وهو المقوقس - وملوك عمان والنجاشي ملك الحبشة ، الذي تملك بعد أصحمة ، رحمه الله وأكرمه .
ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم واختار الله له ما عنده من الكرامة ، قام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق ، فلم شعث ما وهى عند موته ، عليه الصلاة والسلام وأطد جزيرة العرب ومهدها ، وبعث الجيوش الإسلامية إلى بلاد فارس صحبة خالد بن الوليد ، رضي الله عنه ، ففتحوا طرفا منها ، وقتلوا خلقا من أهلها . وجيشا آخر صحبة أبي عبيدة ، رضي الله عنه ، ومن معه من الأمراء إلى أرض الشام ، وثالثا صحبة عمرو بن العاص ، رضي الله عنه ، إلى بلاد مصر ، ففتح الله للجيش الشامي في أيامه بصرى ودمشق ومخاليفهما من بلاد حوران وما والاها ، وتوفاه الله عز وجل ، واختار له ما عنده من الكرامة . ومن على الإسلام وأهله بأن ألهم الصديق أن استخلف عمر الفاروق ، فقام في الأمر بعده قياما تاما ، لم يدر الفلك بعد الأنبياء [ عليهم السلام ] على مثله ، في قوة سيرته وكمال عدله . وتم في أيامه فتح البلاد الشامية بكمالها ، وديار مصر إلى آخرها ، وأكثر إقليم فارس ، وكسر كسرى وأهانه غاية الهوان ، وتقهقر إلى أقصى مملكته ، وقصر قيصر ، وانتزع يده عن بلاد الشام فانحاز إلى قسطنطينة ، وأنفق أموالهما في سبيل الله ، كما أخبر بذلك ووعد به رسول الله ، عليه من ربه أتم سلام وأزكى صلاة .
ثم لما كانت الدولة العثمانية ، امتدت المماليك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها ، ففتحتبلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك : الأندلس ، وقبرص ، وبلاد القيروان ، وبلاد سبتة مما يلي البحر المحيط ، ومن ناحية المشرق إلى أقصى بلاد الصين ، وقتل كسرى ، وباد ملكه بالكلية . وفتحت مدائن العراق ، وخراسان ، والأهواز ، وقتل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جدا ، وخذل الله ملكهم الأعظم خاقان ، وجبي الخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، رضي الله عنه . وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه الأمة على حفظ القرآن; ولهذا ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله زوى لي الأرض ، فرأيت مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها " فها نحن نتقلب فيما وعدنا الله ورسوله ، وصدق الله ورسوله ، فنسأل الله الإيمان به ، وبرسوله ، والقيام بشكره على الوجه الذي يرضيه عنا .
قال الإمام مسلم بن الحجاج : حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، عن عبد الملك بن عمير ، عن جابر بن سمرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا " . ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة خفيت عني فسألت أبي : ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال : " كلهم من قريش " .
ورواه البخاري من حديث شعبة ، عن عبد الملك بن عمير ، به
وفي رواية لمسلم أنه قال ذلك عشية رجم ماعز بن مالك ، وذكر معه أحاديث أخر
وهذا الحديث فيه دلالة على أنه لا بد من وجود اثني عشر خليفة عادلا وليسوا هم بأئمة الشيعة الاثني عشر فإن كثيرا من أولئك لم يكن إليهم من الأمر شيء ، فأما هؤلاء فإنهم يكونون من قريش ، يلون فيعدلون . وقد وقعت البشارة بهم في الكتب المتقدمة ، ثم لا يشترط أن يكون متتابعين ، بل يكون وجودهم في الأمة متتابعا ومتفرقا ، وقد وجد منهم أربعة على الولاء ، وهم أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي ، رضي الله عنهم . ثم كانت بعدهم فترة ، ثم وجد منهم ما شاء الله ، ثم قد يوجد منهم من بقي في وقت يعلمه الله . ومنهم المهدي الذي يطابق اسمه اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكنيته كنيته ، يملأ الأرض عدلا وقسطا ، كما ملئت جورا وظلما .
وقد روى الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، من حديث سعيد بن جمهان ، عن سفينة - مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثم يكون ملكا عضوضا " .
وقال الربيع بن أنس ، عن أبي العالية في قوله : ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا ) الآية ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحوا من عشر سنين ، يدعون إلى الله وحده ، وعبادته وحده لا شريك له سرا وهم خائفون ، لا يؤمرون بالقتال ، حتى أمروا بعد بالهجرة إلى المدينة ، فقدموا المدينة ، فأمرهم الله بالقتال ، فكانوا بها خائفين يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح ، فغبروا بذلك ما شاء الله . ثم إن رجلا من أصحابه قال : يا رسول الله ، أبد الدهر نحن خائفون هكذا؟ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا [ فيه ] السلاح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لن تغبروا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليست فيهم حديدة " . وأنزل الله هذه الآية ، فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب ، فأمنوا ووضعوا السلاح . ثم إن الله ، عز وجل ، قبض نبيه صلى الله عليه وسلم فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا ، فأدخل [ الله ] عليهم الخوف فاتخذوا الحجزة والشرط وغيروا ، فغير بهم .
وقال بعض السلف : خلافة أبي بكر وعمر ، رضي الله عنهما ، حق في كتابه ، ثم تلا هذه الآية .
وقال البراء بن عازب : نزلت هذه الآية ، ونحن في خوف شديد .
وهذه الآية الكريمة كقوله تعالى : ( واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون ) [ الأنفال : 26 ] .
وقوله : ( كما استخلف الذين من قبلهم ) كما قال تعالى عن موسى ، عليه السلام ، أنه قال لقومه : ( عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون ) [ الأعراف : 129 ] ، وقال تعالى : ( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ) [ القصص : 5 ، 6 ] .
وقوله : ( وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا ) ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم ، حين وفد عليه : " أتعرف الحيرة ؟ " قال : لم أعرفها ، ولكن قد سمعت بها . قال : " فوالذي نفسي بيده ، ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد ، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز " . قلت : كسرى بن هرمز ؟ قال : " نعم ، كسرى بن هرمز ، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد " . قال عدي بن حاتم : فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت في غير جوار أحد ، ولقد كنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز ، والذي نفسي بيده ، لتكونن الثالثة; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا سفيان ، عن أبي سلمة ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة ، والدين والنصر والتمكين في الأرض ، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا ، لم يكن له في الآخرة نصيب " .
وقوله : ( يعبدونني لا يشركون بي شيئا ) قال الإمام أحمد :
حدثنا عفان ، حدثنا همام ، حدثنا قتادة عن أنس ، أن معاذ بن جبل حدثه قال : بينا أنا رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه إلا آخرة الرحل ، قال : " يا معاذ " ، قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك . قال : ثم سار ساعة ، ثم قال : " يا معاذ بن جبل " ، قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك . [ ثم سار ساعة ، ثم قال : " يا معاذ بن جبل " ، قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك " ] . قال : " هل تدري ما حق الله على العباد " ؟ قلت : الله ورسوله أعلم . قال : " [ فإن ] حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا " . قال : ثم سار ساعة . ثم قال : " يا معاذ بن جبل " ، قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك . قال : " فهل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك " ؟ ، قال : قلت : الله ورسوله أعلم . قال : " فإن حق العباد على الله أن لا يعذبهم " .
أخرجاه في الصحيحين من حديث قتادة .
وقوله : ( ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ) أي : فمن خرج عن طاعتي بعد ذلك ، فقد فسق عن أمر ربه وكفى بذلك ذنبا عظيما . فالصحابة ، رضي الله عنهم ، لما كانوا أقوم الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم بأوامر الله عز وجل ، وأطوعهم لله - كان نصرهم بحسبهم ، وأظهروا كلمة الله في المشارق والمغارب ، وأيدهم تأييدا عظيما ، وتحكموا في سائر العباد والبلاد . ولما قصر الناس بعدهم في بعض الأوامر ، نقص ظهورهم بحسبهم ، ولكن قد ثبت في الصحيحين ، من غير وجه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى يوم القيامة " وفي رواية : " حتى يأتي أمر الله ، وهم كذلك " . وفي رواية : " حتى يقاتلوا الدجال " . وفي رواية : " حتى ينزل عيسى ابن مريم وهم ظاهرون " . وكل هذه الروايات صحيحة ، ولا تعارض بينها .