تفسير ابن كثير
تفسير الآية رقم 11 من سورة الرعد
وقوله : ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ) أي : للعبد ملائكة يتعاقبون عليه ، حرس بالليل وحرس بالنهار ، يحفظونه من الأسواء والحادثات ، كما يتعاقب ملائكة آخرون لحفظ الأعمال من خير أو شر ، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، فاثنان عن اليمين و [ عن ] الشمال يكتبان الأعمال ، صاحب اليمين يكتب الحسنات ، وصاحب الشمال يكتب السيئات ، وملكان آخران يحفظانه ويحرسانه ، واحدا من ورائه وآخر من قدامه ، فهو بين أربعة أملاك بالنهار ، وأربعة آخرين بالليل بدلا حافظان وكاتبان ، كما جاء في الصحيح : " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر ، فيصعد إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بكم : كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : أتيناهم وهم يصلون ، وتركناهم وهم يصلون " وفي الحديث الآخر : " إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء وعند الجماع ، فاستحيوهم وأكرموهم " . وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ) والمعقبات من أمر الله ، وهي الملائكة .
وقال عكرمة ، عن ابن عباس : ( يحفظونه من أمر الله ) قال : ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه ، فإذا جاء قدر الله خلوا عنه .
وقال مجاهد : ما من عبد إلا له ملك موكل ، يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام ، فما منها شيء يأتيه يريده إلا قال الملك : وراءك إلا شيء يأذن الله فيه فيصيبه .
وقال الثوري عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه ) قال : ذلك ملك من ملوك الدنيا ، له حرس من دونه حرس .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه ) يعني : ولي الشيطان ، يكون عليه الحرس . وقال عكرمة في تفسيرها : هؤلاء الأمراء : المواكب من بين يديه ومن خلفه .
وقال الضحاك : ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ) قال : هو السلطان المحترس من أمر الله ، وهم أهل الشرك .
والظاهر ، والله أعلم ، أن مراد ابن عباس وعكرمة والضحاك بهذا أن حرس الملائكة للعبيد يشبه حرس هؤلاء لملوكهم وأمرائهم .
وقد روى الإمام أبو جعفر بن جرير هاهنا حديثا غريبا جدا فقال :
حدثني المثنى ، حدثنا إبراهيم بن عبد السلام بن صالح القشيري ، حدثنا علي بن جرير ، عن حماد بن سلمة ، عن عبد الحميد بن جعفر ، عن كنانة العدوي قال : دخل عثمان بن عفان على رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : يا رسول الله ، أخبرني عن العبد ، كم معه من ملك ؟ فقال : " ملك على يمينك على حسناتك ، وهو آمر على الذي على الشمال ، إذا عملت حسنة كتبت عشرا ، فإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين : أكتب ؟ قال : لا لعله يستغفر الله ويتوب . فإذا قال ثلاثا قال : نعم ، اكتب أراحنا الله منه ، فبئس القرين . ما أقل مراقبته لله وأقل استحياءه منا " . يقول الله : ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) [ ق : 18 ] وملكان من بين يديك ومن خلفك ، يقول الله : ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ) وملك قابض على ناصيتك ، فإذا تواضعت لله رفعك ، وإذا تجبرت على الله قصمك ، وملكان على شفتيك ، ليس يحفظان عليك إلا الصلاة على محمد - صلى الله عليه وسلم - وملك قائم على فيك لا يدع الحية أن تدخل في فيك ، وملكان على عينيك فهؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي ينزلون ملائكة الليل على ملائكة النهار; لأن ملائكة الليل سوى ملائكة النهار ، فهؤلاء عشرون ملكا على كل آدمي وإبليس بالنهار وولده بالليل " .
قال الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا سفيان ، حدثني منصور ، عن سالم بن أبي الجعد عن أبيه ، عن عبد الله قال : قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : " ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة " . قالوا : وإياك يا رسول الله ، قال : " وإياي ، ولكن أعانني الله عليه فلا يأمرني إلا بخير " .
انفرد بإخراجه مسلم .
وقوله : ( يحفظونه من أمر الله ) قيل : المراد حفظهم له من أمر الله . رواه علي بن أبي طلحة ، وغيره ، عن ابن عباس . وإليه ذهب مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وإبراهيم النخعي ، وغيرهم .
وقال قتادة : ( يحفظونه من أمر الله ) قال : وفي بعض القراءات : " يحفظونه بأمر الله " .
وقال كعب الأحبار : لو تجلى لابن آدم كل سهل وحزن ، لرأى كل شيء من ذلك شياطين لولا أن الله وكل بكم ملائكة عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم ، إذا لتخطفتم .
وقال أبو أمامة ما من آدمي إلا ومعه ملك يذود عنه ، حتى يسلمه للذي قدر له .
وقال أبو مجلز : جاء رجل من مراد إلى علي ، رضي الله عنه ، وهو يصلي ، فقال : احترس ، فإن ناسا من مراد يريدون قتلك . فقال : إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدر ، فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه ، وإن الأجل جنة حصينة .
وقال بعضهم : ( يحفظونه من أمر الله ) بأمر الله ، كما جاء في الحديث أنهم قالوا : يا رسول الله ، أرأيت رقى نسترقي بها ، هل ترد من قدر الله شيئا ؟ فقال : " هي من قدر الله " .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا حفص بن غياث ، عن أشعث ، عن جهم ، عن إبراهيم قال : أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل : أن قل لقومك : إنه ليس من أهل قرية ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله فيتحولون منها إلى معصية الله ، إلا تحول لهم مما يحبون إلى ما يكرهون ، ثم قال : إن مصداق ذلك في كتاب الله : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )
وقد ورد هذا في حديث مرفوع ، فقال الحافظ محمد بن عثمان بن أبي شيبة في كتابه " صفة العرش " : حدثنا الحسن بن علي ، حدثنا الهيثم بن الأشعث السلمي ، حدثنا أبو حنيفة اليمامي الأنصاري ، عن عمير بن عبد الله قال : خطبنا علي بن أبي طالب على منبر الكوفة ، قال : كنت إذا سكت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابتدأني ، وإذا سألته عن الخبر أنبأني ، وإنه حدثني عن ربه ، عز وجل ، قال : " قال الرب : وعزتي وجلالي ، وارتفاعي فوق عرشي ، ما من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا على ما كرهت من معصيتي ، ثم تحولوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي ، إلا تحولت لهم عما يكرهون من عذابي إلى ما يحبون من رحمتي " .
وهذا غريب ، وفي إسناده من لا أعرفه .