تفسير ابن كثير
تفسير الآية رقم 90 من سورة يونس
ذكر تعالى كيفية إغراقه فرعون وجنوده ؛ فإن بني إسرائيل لما خرجوا من مصر صحبة موسى ، عليه السلام ، وهم - فيما قيل - ستمائة ألف مقاتل سوى الذرية ، وقد كانوا استعاروا من القبط حليا كثيرا ، فخرجوا به معهم ، فاشتد حنق فرعون عليهم ، فأرسل في المدائن حاشرين يجمعون له جنوده من أقاليمه ، فركب وراءهم في أبهة عظيمة ، وجيوش هائلة لما يريده الله تعالى بهم ، ولم يتخلف عنه أحد ممن له دولة وسلطان في سائر مملكته ، فلحقوهم وقت شروق الشمس ، ( فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون ) [ الشعراء : 61 ] وذلك أنهم لما انتهوا إلى ساحل البحر ، وأدركهم فرعون ، ولم يبق إلا أن يتقاتل الجمعان ، وألح أصحاب موسى ، عليه السلام ، عليه في السؤال كيف المخلص مما نحن فيه ؟ فيقول : إني أمرت أن أسلك هاهنا ، ( كلا إن معي ربي سيهدين ) [ الشعراء : 62 ] فعندما ضاق الأمر اتسع ، فأمره الله تعالى أن يضرب البحر بعصاه ، فضربه فانفلق البحر ، ( فكان كل فرق كالطود العظيم ) [ الشعراء : 63 ] أي : كالجبل العظيم ، وصار اثني عشر طريقا ، لكل سبط واحد . وأمر الله الريح فنشفت أرضه ، ( فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى ) [ طه : 77 ] وتخرق الماء بين الطرق كهيئة الشبابيك ، ليرى كل قوم الآخرين لئلا يظنوا أنهم هلكوا . وجازت بنو إسرائيل البحر ، فلما خرج آخرهم منه انتهى فرعون وجنوده إلى حافته من الناحية الأخرى ، وهو في مائة ألف أدهم سوى بقية الألوان ، فلما رأى ذلك هاله وأحجم وهاب وهم بالرجوع ، وهيهات ولات حين مناص ، نفذ القدر ، واستجيبت الدعوة . وجاء جبريل ، عليه السلام ، على فرس - وديق حائل - فمر إلى جانب حصان فرعون فحمحم إليها وتقدم جبريل فاقتحم البحر ودخله ، فاقتحم الحصان وراءه ، ولم يبق فرعون يملك من نفسه شيئا ، فتجلد لأمرائه ، وقال لهم : ليس بنو إسرائيل بأحق بالبحر منا ، فاقتحموا كلهم عن آخرهم وميكائيل في ساقتهم ، لا يترك أحدا منهم ، إلا ألحقه بهم . فلما استوسقوا فيه وتكاملوا ، وهم أولهم بالخروج منه ، أمر الله القدير البحر أن يرتطم عليهم ، فارتطم عليهم ، فلم ينج منهم أحد ، وجعلت الأمواج ترفعهم وتخفضهم ، وتراكمت الأمواج فوق فرعون ، وغشيته سكرات الموت ، فقال وهو كذلك : ( آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ) فآمن حيث لا ينفعه الإيمان ، ( فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون ) [ غافر : 84 ، 85 ] .