تفسير البغوي
تفسير الآية رقم 53 من سورة الزمر
قوله عز وجل : ( قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله )
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس : أن ناسا من أهل الشرك كانوا قتلوا وأكثروا ، وزنوا وأكثروا ، فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالوا : إن الذي تدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة ، فنزلت هذه الآية .
وقال عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى وحشي يدعوه إلى الإسلام ، فأرسل إليه : كيف تدعوني إلى دينك وأنت تزعم أن من قتل أو أشرك أو زنى يلق أثاما يضاعف له العذاب ، وأنا قد فعلت ذلك كله ، فأنزل الله عز وجل : " إلا من تاب وآمن وعمل صالحا " ( مريم - 60 ) فقال وحشي : هذا شرط شديد لعلي لا أقدر عليه فهل غير ذلك ؟ فأنزل الله تعالى : " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " ( النساء : 48 ، 116 ) فقال وحشي : أراني بعد في شبهة ، فلا أدري يغفر لي أم لا ؟ فأنزل الله تعالى : " قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله " ، فقال وحشي : نعم هذا ، فجاء وأسلم ، فقال المسلمون : هذا له خاصة أم للمسلمين عامة ؟ فقال : بل للمسلمين عامة .
وروي عن ابن عمر قال : نزلت هذه الآيات في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا قد أسلموا ثم فتنوا وعذبوا ، فافتتنوا فكنا نقول : لا يقبل الله من هؤلاء صرفا ولا عدلا أبدا ، قوم أسلموا ثم تركوا دينهم لعذاب عذبوا فيه ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات ، فكتبها عمر بن الخطاب بيده ثم بعث بها إلى عياش بن ربيعة والوليد بن الوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا وهاجروا .
وروى مقاتل بن حيان عن نافع عن ابن عمر قال : كنا معاشر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نرى أو نقول : ليس بشيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة حتى نزلت : " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم " ( محمد - 33 ) فلما نزلت هذه الآية قلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا ؟ فقلنا : الكبائر والفواحش ، قال : فكنا إذا رأينا من أصاب شيئا منها قلنا قد هلك ، فنزلت هذه الآية ، فكففنا عن القول في ذلك ، فكنا إذا رأينا أحدا أصاب منها شيئا خفنا عليه ، وإن لم يصب منها شيئا رجونا له ، وأراد بالإسراف ارتكاب الكبائر .
وروي عن ابن مسعود أنه دخل المسجد فإذا قاص يقص وهو يذكر النار والأغلال ، فقام على رأسه فقال : يا مذكر لم تقنط الناس ؟ ثم قرأ : " ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله " .
أخبرنا أبو بكر بن أبي الهيثم الترابي ، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد الحموي أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن خزيم الشاشي ، حدثنا عبد الله بن حميد ، حدثنا حيان بن هلال وسليمان بن حرب وحجاج بن منهال قالوا : حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت ، عن شهر بن حوشب ، عن أسماء بنت يزيد قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ) ولا يبالي " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن أبي عدي عن شعبة عن قتادة عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنسانا ، ثم خرج يسأل فأتى راهبا فسأله ، فقال : هل لي من توبة ؟ فقال : لا ، فقتله فكمل به المائة . فقال له رجل : ائت قرية كذا وكذا ، فأدركه الموت فنأى بصدره نحوها ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تقربي وأوحى إلى هذه أن تباعدي ، وقال : قيسوا ما بينهما فوجد إلى هذه أقرب بشبر فغفر له " .
ورواه مسلم بن الحجاج عن محمد بن المثنى العنبري عن معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة بهذا الإسناد ، وقال : " فدل على راهب فأتاه فقال إنه قتل تسعة وتسعين نفسا فهل له من توبة ؟ فقال له : لا ، فقتله وكمل به مائة ، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم ، فقال له : قتلت مائة نفس فهل لي من توبة ؟ فقال : نعم ، ومن يحول بينه وبين التوبة ؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسا يعبدون الله فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء ، فانطلق حتى إذا كان نصف الطريق أتاه الموت ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم فقال : قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له ، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد ، فقبضته ملائكة الرحمة " .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " قال رجل - لم يعمل خيرا قط - لأهله : إذا مات فحرقوه ، ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين ، قال : فلما مات فعلوا ما أمرهم ، فأمر الله البحر فجمع ما فيه وأمر البر فجمع ما فيه ، ثم قال له : لم فعلت هذا ؟ قال : من خشيتك يا رب وأنت أعلم ، فغفر له " .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث ، أخبرنا أبو الحسين محمد بن يعقوب الكسائي ، أخبرنا عبد الله بن محمود ، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، حدثنا عبد الله بن المبارك عن عكرمة بن عمار ، حدثنا ضمضم بن جوس قال : دخلت مسجد المدينة فناداني شيخ ، فقال : يا يماني تعال ، وما أعرفه ، فقال : لا تقولن لرجل : والله لا يغفر الله لك أبدا ، ولا يدخلك الله الجنة ، قلت : ومن أنت يرحمك الله ؟ قال : أبو هريرة ، قال فقلت : إن هذه الكلمة يقولها أحدنا لبعض أهله إذا غضب أو لزوجته أو لخادمه ، قال : فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن رجلين كانا في بني إسرائيل متحابين أحدهما مجتهد في العبادة والآخر يقول كأنه مذنب ، فجعل يقول : أقصر أقصر عما أنت فيه ، قال فيقول : خلني وربي ، قال : حتى وجده يوما على ذنب استعظمه ، فقال : أقصر ، فقال : خلني وربي أبعثت علي رقيبا ؟ فقال : والله لا يغفر الله لك أبدا ، ولا يدخلك الجنة أبدا . قال : فبعث الله إليهما ملكا فقبض أرواحهما فاجتمعا عنده ، فقال للمذنب : ادخل الجنة برحمتي ، وقال للآخر : أتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي ؟ فقال : لا يا رب ، فقال : اذهبوا به إلى النار " قال أبو هريرة : والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته .
قوله عز وجل : ( إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ) .
أخبرنا عبد الرحمن بن أبي بكر القفال ، أخبرنا أبو مسعود محمد بن أحمد بن يونس الخطيب ، حدثنا محمد بن يعقوب الأصم ، حدثنا أبو قلابة ، حدثنا أبو عاصم ، حدثنا زكريا بن إسحاق عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس في قوله تعالى : " إلا اللمم " ( النجم - 32 ) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك لا ألما